الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فقالت طائفة : إنه إمام وإن معاوية إمام ، وإنه يجوز نصب إمامين [ في وقت ] [1] إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد ، وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم .

                  وقالت طائفة : لم يكن في ذلك الزمان إمام عام ، بل كان زمان فتنة ، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريين وغيرهم . ولهذا لما أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة وقال : من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله ، أنكر ذلك طائفة من هؤلاء ، وقالوا : قد أنكر خلافته من لا يقال : هو أضل من حمار أهله ، يريدون من تخلف عنها من الصحابة . واحتج أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا " ، [ و ] [2] هذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره [3] .

                  وقالت طائفة ثالثة : بل علي هو الإمام ، وهو مصيب في قتاله لمن قاتله ، وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير كلهم مجتهدون [ ص: 538 ] مصيبون . وهذا قول من يقول : كل مجتهد مصيب ، كقول البصريين من المعتزلة : [ أبي الهذيل ] [4] وأبي علي ، وأبي هاشم ، ومن وافقهم من الأشعرية : كالقاضي أبي بكر ، وأبي حامد [5] ، وهو المشهور عن [ أبي الحسن ] الأشعري [6] . وهؤلاء [ أيضا ] [7] يجعلون معاوية مجتهدا مصيبا في قتاله ، كما أن عليا مصيب .

                  وهذا قول طائفة [ من الفقهاء ] [8] من أصحاب أحمد وغيرهم ، ذكره [ أبو عبد الله ] [9] بن حامد ، ذكر [ لأصحاب أحمد ] [10] في المقتتلين يوم الجمل وصفين ثلاثة أوجه : أحدها : [11] كلاهما مصيب ، والثاني : المصيب واحد لا بعينه ، والثالث : أن عليا هو المصيب ومن خالفه مخطئ . والمنصوص عن أحمد وأئمة السلف [12] أنه لا يذم أحد منهم [13] وأن عليا أولى بالحق [ من غيره ] [14] . أما تصويب القتال فليس هو قول أئمة السنة ، بل هم يقولون إن تركه كان أولى .

                  [ ص: 539 ] وطائفة رابعة تجعل عليا هو الإمام ، وكان مجتهدا مصيبا في القتال ، ومن قاتله [15] كانوا [ مجتهدين ] [16] مخطئين ، وهذا قول كثير من أهل الرأي والكلام [17] ، من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم .

                  وطائفة خامسة تقول : إن عليا مع كونه كان خليفة وهو أقرب إلى الحق من معاوية ، فكان [18] ترك القتال أولى ، وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها [19] خير من الساعي " [20] . وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عن الحسن : " إن ابني هذا سيد ، [ ص: 440 ] وسيصلح الله به بين فئتين [21] عظيمتين من المسلمين " [22] . فأثنى على الحسن بالإصلاح ، ولو كان القتال واجبا أو مستحبا ، لما مدح تاركه .

                  قالوا : وقتال البغاة لم يأمر الله به ابتداء ، ولم يأمر بقتال كل باغ ، بل قال [ تعالى ] [23] وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله [ سورة الحجرات : 9 ] ، فأمر إذا اقتتل المؤمنون بالإصلاح بينهم ، فإن بغت إحداهما [ على الأخرى ] [24] قوتلت .

                  قالوا : ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة ، والأمر الذي يأمر الله به لا بد أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته . وفي سنن أبي داود ، حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا يزيد ، أنبأنا هشام ، عن محمد يعني ابن [ ص: 541 ] سيرين ، قال : قال حذيفة : ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة [25] ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تضرك الفتنة " [26] .

                  قال أبو داود : حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا شعبة عن الأشعث بن سليم ، [ عن أبي بردة ، عن ثعلبة بن ضبيعة ، قال : دخلنا [27] على حذيفة فقال : إني لأعرف رجلا لا تضره الفتن شيئا . قال : فخرجنا فإذا فسطاط مضروب ، فدخلنا [28] فإذا فيه محمد بن مسلمة ] [29] ، فسألناه عن ذلك ، فقال : ما أريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم [30] حتى تنجلي عما انجلت [31] .

                  فهذا الحديث يبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن محمد بن مسلمة لا تضره الفتنة ، وهو ممن اعتزل في القتال فلم يقاتل لا مع علي [ ص: 542 ] ولا مع معاوية ، كما اعتزل سعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر [32] ، وأبو بكرة ، وعمران بن حصين ، وأكثر السابقين الأولين .

                  وهذا يدل على أنه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب ، إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك مما يمدح به الرجل ، بل كان من فعل الواجب أو المستحب [33] أفضل ممن تركه ، ودل ذلك على أن القتال قتال فتنة .

                  كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم [ فيها ] [34] خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، والساعي خير من الموضع " [35] - 31 . ، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة التي تبين أن ترك القتال كان خيرا من فعله من الجانبين ، وعلى هذا جمهور [ أئمة ] [36] أهل الحديث والسنة ؛ وهذا مذهب مالك ، والثوري [37] وأحمد وغيرهم .

                  [ ص: 543 ] وهذه أقوال من يحسن القول في علي وطلحة والزبير ومعاوية ، ومن سوى هؤلاء من الخوارج والروافض والمعتزلة فمقالاتهم في الصحابة لون آخر ، فالخوارج تكفر عليا وعثمان ومن والاهما [38] ؛ والروافض تكفر جمهور [39] الصحابة كالثلاثة ومن والاهم وتفسقهم [40] ، ويكفرون من قاتل [ ص: 544 ] عليا ويقولون : هو إمام معصوم [41] ، وطائفة من المروانية تفسقه وتقول : إنه ظالم معتد [42] ، وطائفة من المعتزلة تقول : قد فسق إما هو وإما من قاتله ، لكن لا يعلم عينه ، وطائفة أخرى منهم تفسق معاوية وعمرا دون طلحة والزبير وعائشة [43] .

                  [ ص: 545 ] والمقصود أن الخلاف في خلافة علي وحروبه [44] كثير منتشر [45] بين السلف والخلف ، فكيف تكون مبايعة الخلق له أعظم من مبايعتهم للثلاثة قبله ، [ رضي الله عنهم أجمعين ؟ ] [46] .

                  فإن قال : أردت بقولي [47] أن أهل السنة يقولون : إن خلافته انعقدت بمبايعة الخلق له لا بالنص .

                  فلا ريب أن أهل السنة وإن كانوا يقولون : إن النص على أن عليا من الخلفاء الراشدين ، لقوله : " خلافة النبوة ثلاثون سنة " ، فهم يروون [48] النصوص الكثيرة في صحة خلافة غيره .

                  وهذا أمر معلوم عند أهل العلم بالحديث [49] ، يروون في صحة خلافة الثلاثة نصوصا كثيرة ، بخلاف خلافة علي فإن نصوصها قليلة ، فإن الثلاثة اجتمعت [50] الأمة عليهم فحصل بهم مقصود الإمامة ، وقوتل بهم [ ص: 546 ] الكفار ، وفتحت بهم الأمصار . وخلافة علي لم يقاتل فيها كفار [51] ، ولا فتح مصر ، وإنما كان السيف بين أهل القبلة .

                  وأما النص الذي تدعيه الرافضة ، فهو كالنص الذي تدعيه الراوندية على العباس [52] ، وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة عند أهل العلم ، ولو لم يكن في إثبات خلافة علي إلا هذا لم تثبت له إمامة قط ، كما لم تثبت للعباس إمامة بنظيره .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية