الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فإن قيل : فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين ، قيل : المنافقون لم يكونوا متصفين بهذه الصفات ، ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ، ولم يكونوا منهم ، كما قال تعالى : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ) [ سورة المائدة : 52 - 53 ] [1] .

                  وقوله تعالى : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ) [ سورة العنكبوت : 10 - 11 ] .

                  وقال : ( إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ) [ سورة النساء : 140 - 141 ] . إلى قوله : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ) [ سورة النساء : 145 - 146 ] .

                  [ ص: 43 ] وقال تعالى : ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون ) [ سورة التوبة : 56 ] .

                  وقال تعالى : ( ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون ) [ سورة المجادلة : 14 ] [2] ، فأخبر أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب : وهؤلاء لا يوجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام أكثر منهم في الرافضة ومن انضوى [3] . إليهم .

                  وقد قال تعالى [4] . : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) [ سورة التحريم : 8 ] .

                  وقال تعالى : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ) [ سورة الحديد : 13 ] ، فدل هذا على أن المنافقين لم يكونوا داخلين في الذين آمنوا معه ، والذين كانوا منافقين ، منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه ، [5] . الغالب ، بدليل قوله تعالى : ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ) [ سورة الأحزاب : [ ص: 44 ] 60 - 61 ] ، فلما لم يغره الله بهم ولم يقتلهم تقتيلا ، بل كانوا يجاورونه بالمدينة ، دل ذلك على أنهم انتهوا .

                  والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعه [6] . تحت الشجرة إلا الجد بن قيس [7] ، فإنه اختبأ تحت [8] . جمل أحمر .

                  وكذا جاء في الحديث : " كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر " [9] .

                  [ ص: 45 ] [ وبالجملة ] [10] . فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين أذلاء مقهورين [11] ، لا سيما في آخر أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي غزوة تبوك ; لأن الله تعالى قال : ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) [ سورة المنافقين : 8 ] ، فأخبر أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين ، فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين ، وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم .

                  فيمتنع أن يكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين ، بل ذلك يقتضي أن من كان أعز كان أعظم إيمانا ، ومن المعلوم [12] . أن [ ص: 46 ] السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار - الخلفاء الراشدين [13] . وغيرهم - كانوا أعز الناس ، وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين ، فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ، ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم .

                  والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف ، بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق ، فإن أساس النفاق الذي بني عليه الكذب ، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه ، كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .

                  والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية ، وتحكي هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك ، حتى يحكوا [14] . عن جعفر الصادق أنه قال : التقية ديني ودين آبائي [15] .

                  وقد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك ، بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان ، وكان دينهم التقوى لا التقية [16] .

                  وقول الله تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ) [ ص: 47 ] [ سورة آل عمران : 28 ] إنما هو الأمر بالاتقاء من الكفار [17] . لا الأمر [18] . بالنفاق والكذب .

                  والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لكن لم يكره أحد من أهل البيت على شيء [ من ذلك ] [19] ، حتى أن أبا بكر [ رضي الله عنه ] رضي الله عنه : [20] . لم يكره أحدا لا منهم ولا من غيرهم على مبايعته [21] ، فضلا أن يكرههم على مدحه والثناء عليه ، بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر [22] . فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ، ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس .

                  وقد كان في زمن بني أمية وبني العباس خلق عظيم [23] . دون علي وغيره [24] . في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ولا يقربونهم ، ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ولم يكن أولئك يكرهونهم ، مع أن الخلفاء [ الراشدين ] [25] . كانوا باتفاق الخلق [ ص: 48 ] أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم من هؤلاء ، فإذا لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على أن يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم [26] ، فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك ; بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر - كما تقوله الرافضة - من غير أن يكرههم أحد على ذلك ؟ .

                  فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة ، هو من باب الكذب والنفاق ، وأن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، لا من باب ما يكره المؤمن عليه من التكلم بالكفر .

                  وهؤلاء أسرى المسلمين في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم ، والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور وتكفير عثمان وعلي ومن والاهما يتظاهرون بدينهم ، وإذا سكنوا بين الجماعة سكنوا على الموافقة والمخالفة [27] . والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض ، وغايته إذا ضعف أن يسكت عن ذكر مذهبه ، لا يحتاج أن يتظاهر بسبب الخلفاء والصحابة إلا أن يكونوا قليلا .

                  فكيف يظن بعلي [ رضي الله عنه ] [28] . وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف دينا وقلوبا [29] . من الأسرى في بلاد الكفر ، ومن عوام [ أهل ] [30] . [ ص: 49 ] السنة ، ومن النواصب [31] " . ؟ مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليا ولا أولاده [32] . على ذكر فضائل الخلفاء والترحم عليهم ، بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ; ويقوله أحدهم لخاصته ، كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر [33] .

                  ( 4 وأيضا فقد يقال في قوله تعالى 4 ) [34] . : ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ) [ سورة النور : 55 ] إن ذلك وصف للجملة بوصف يتضمن حالهم [35] . عند الاجتماع كقوله تعالى : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ) [ سورة الفتح : 29 ] ، والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد ، فلا بد أن يتصف بسبب ذلك وهو الإيمان والعمل الصالح ، إذ قد يكون في الجملة منافق .

                  وفي الجملة كل [36] . ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين [37] . [ ص: 50 ] والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم ، فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة [38] ، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة ; كما استفاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال : خير القرون القرن الذي بعثت فيهم [39] . ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم [40] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية