الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الخامس : أن يقال : تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد ( 2 لما خيره عبيد الله بن زياد بين الخروج في السرية التي أرسلها إلى الحسين ، وبين عزله عن الري من أقبح القياس ، فإذا كان عمر بن سعد 2 ) [1] طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرم لأجل ذلك ، أفيلزم [2] أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال ؟ .

                  وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ، ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق [3] ، وجاءه [ عمر ] ابنه [4] هذا فلامه على ذلك ، وقال [ له ] [5] : الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت هاهنا [6] ! فقال : اذهب فإني سمعت رسول الله [7] - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " [8] .

                  [ ص: 66 ] وهذا ولم يكن قد بقي أحد [9] من أهل الشورى غيره وغير علي - رضي الله عنهما [10] ، وهو الذي فتح العراق وأذل جنود [11] كسرى ، وهو آخر العشرة موتا ، فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه [12] به أبو بكر وعمر وعثمان ؟ .

                  هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه ، بل يفضلون محمدا ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان ، وكان من خواص أصحاب علي ; لأنه كان ربيبه ، ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه .

                  فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك : فمدحوه على قتل الحسين لكونه كان من شيعة عثمان ، ومن المنتصرين له [13] ، وسبوا أباه سعدا لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان ; هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة ؟ بل الرافضة شر منهم ، فإن أبا بكر أفضل من سعد ، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين ، وكلاهما مظلوم شهيد ، رضي الله عنهما .

                  [ ص: 67 ] ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين ، وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل [14] بغير حق فلم ينعزل ، ولم يدفع [15] عن نفسه حتى قتل ، والحسين - رضي الله عنه - لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية حتى رأى أنها متعذرة ، وطلب [16] منه أن يستأسر نفسه [17] ; ليحمل إلى يزيد مأسورا فلم يجب إلى ذلك ، وقاتل حتى قتل شهيدا مظلوما [18] ، فظلم عثمان كان أعظم ، وصبره وحلمه [ كان ] [19] أكمل ، وكلاهما مظلوم شهيد .

                  ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر [20] بطلب الإسماعيلية كالحاكم [21] وأمثاله ، وقال : إن عليا والحسين [22] كانا ظالمين طالبين [ ص: 68 ] للرياسة بغير حق ، بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد ، أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان علي والحسين ودينهما وفضلهما ، ولنفاق هؤلاء وإلحادهم ؟ .

                  وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم [23] ، أما كان يكون ظالما كاذبا ؟ .

                  فالمشبه لأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ، ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف [24] أنها معصية ، وهذا ذنب كثير [ وقوعه ] من المسلمين [25] .

                  وأما الشيعة فكثير منهم يعترفون بأنهم إنما [26] . قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم من الداخلين في الشيعة ، فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام ، وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ، ليتوسلوا بهم إلى أغراضهم .

                  وأول هؤلاء - بل خيارهم - هو المختار بن أبي عبيد الكذاب [27] . فإنه

                  [ ص: 69 ] كان أمير [28] الشيعة ، وقتل عبيد الله [29] بن زياد ، وأظهر الانتصار للحسين حتى قتل قاتله ، وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية [30] وأهل البيت ، ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه .

                  وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " سيكون في ثقيف كذاب ومبير [31] " فكان الكذاب هو المختار بن أبي [ ص: 70 ] عبيد ، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي [32] .

                  ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت [33] الحسين ، مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين ، لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الانتصار للحسين وقتل قاتله ، بل [ كان ] [34] هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد ، فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي ، بل والحجاج [ بن يوسف ] [35] خير من المختار [ بن أبي عبيد ] [36] ، فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - يسفك الدماء بغير حق ، والمختار كان كذابا يدعي النبوة [37] وإتيان جبريل [ ص: 71 ] إليه ، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس ، فإن هذا كفر ، وإن كان لم يتب منه كان مرتدا ، والفتنة أعظم من القتل .

                  وهذا باب مطرد ، لا تجد أحدا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ، ولا تجد أحدا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه ، فإن الروافض شر من النواصب ، والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب .

                  وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ، ويتكلمون بعلم وعدل ، ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ، ويتبرءون من طريقة الروافض والنواصب [ جميعا ] [38] ، ويتولون السابقين والأولين [ كلهم ] [39] ، ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ، ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ، ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ، ولا ما فعله [40] . الحجاج ونحوه من الظالمين ، ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين ، فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما [41] فيها أحد [ من الصحابة ] [42] ، لا عثمان ولا علي [ ولا غيرهما ] [43] .

                  [ ص: 72 ] وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول ، [ إلا أن يكون خلافا شاذا لا يعبأ به ] [44] ، حتى أن الشيعة الأولى [45] أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه .

                  كيف وقد ثبت عن علي [46] [ من وجوه متواترة ] [47] أنه كان يقول : " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر " [48] ولكن كان طائفة من شيعة علي [ ص: 73 ] تقدمه [49] على عثمان ، وهذه المسألة [50] أخفى من تلك .

                  ولهذا كان أئمة [ أهل ] [51] السنة كلهم [52] متفقين على تقديم أبي بكر وعمر ( 5 من وجوه متواترة 5 ) [53] ، [ كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والثوري والأوزاعي والليث بن سعد ، وسائر أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين ] [54] .

                  وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما [55] ، وهي إحدى الروايتين عن مالك ، وكان طائفة من الكوفيين يقدمون عليا ، وهي إحدى الروايتين عن [ سفيان ] الثوري [56] ، ثم قيل : إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني [57] وقال : من قدم عليا على عثمان فقد أزرى [ ص: 74 ] بالمهاجرين والأنصار . [ وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان ، وهو مذهب جماهير أهل الحديث ، وعليه يدل النص والإجماع والاعتبار ] [58] .

                  وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك ، فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما ، [ وكذلك ما ينقل عن بعضهم في علي ] [59] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية