[ ص: 75 ] وأما قوله [1] : " وبعضهم اشتبه الأمر عليه [2] ورأى [3] لطالب الدنيا متابعا [4] ، فقلده [ وبايعه ] [5] وقصر في نظره ، فخفي عليه الحق ، فاستحق [6] ، المؤاخذة من الله [7] بإعطاء الحق لغير مستحقه "
قال : " وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعه ، وتوهم [8] أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى : ( وقليل ما هم ) [ سورة ص : 24 ] ، ( وقليل من عبادي الشكور ) [ سورة سبأ : 13 ] " .
فيقال لهذا المفتري الذي جعل ثلاثة أصناف أبا بكر : أكثرهم طلبوا الدنيا ، وصنف قصروا في النظر ، وصنف عجزوا عنه ; لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد ، وإما أن يكون للجهل ، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر ، وإما أن يكون لعجز عنه . وذكر الصحابة الذين بايعوا [9] أنه كان في الصحابة [10] وغيرهم من قصر في النظر حين بايع ، ولو نظر لعرف الحق ، وهذا يؤاخذ على تفريطه بترك النظر الواجب . وفيهم [ ص: 76 ] من عجز عن النظر فقلد الجم الغفير ، يشير بذلك إلى [ سبب ] أبا بكر [11] مبايعة . أبي بكر
فيقال له : وهذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد . والرافضة قوم بهت ، فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك ، لم يكن له على ذلك دليل .
والله [ تعالى ] [12] قد حرم القول بغير علم ، فكيف إذا كان المعروف [13] ضد ما قاله ؟ فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة ، لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد والجهل بالمستحق .
قال تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) [ سورة الإسراء : 36 ] ، وقال تعالى : ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ) [ سورة آل عمران : 66 ] .
فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة [14] عقلا [ وعلما ] [15] ودينا ؟ كما قال فيهم [ عبد الله ] بن مسعود [16] : من كان [ منكم ] [17] مستنا [ ص: 77 ] فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة . أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا [18] ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا [19] ، قوم اختارهم الله [20] لصحبة نبيه [21] وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم [22] واتبعوهم في آثارهم ، ( 6 وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم 6 ) [23] ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم . رواه غير واحد منهم عن ابن بطة قتادة .
وروى هو غيره بالأسانيد المعروفة إلى ، قال : قال [ زر بن حبيش عبد الله ] بن مسعود [24] : إن الله [ تبارك ] [ ص: 78 ] وتعالى [25] نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد [26] خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه [27] برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - [28] فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه [29] المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه [30] المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ .
[ ص: 79 ] وفي رواية : [ قال - الراوي لهذا الأثر عن أبو بكر بن عياش ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش - رضي الله عنه ] عبد الله بن مسعود [31] : وقد رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جميعا أن يستخلفوا . أبا بكر
وقول [32] [ [33] بن مسعود : كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، كلام جامع ، بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب ، وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف عبد الله ] [34] .
وهذا خلاف ما قاله [ هذا ] [35] المفتري ، الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا وبعضهم بالجهل : إما عجزا وإما تفريطا .
والذي قاله عبد الله حق ، فإنهم خير هذه الأمة ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم ; حيث قال : " " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم [36] . وهم أفضل الأمة ، الوسط الشهداء على الناس ، الذين هداهم الله لما اختلف [37] فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فليسوا من [ ص: 80 ] المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ، ولا من الضالين [38] الجاهلين كما قسمهم هؤلاء المفترون إلى ضلال وغواة ، بل لهم كمال العلم وكمال القصد ، إذا لو لم يكن كذلك [39] للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم ، وأن [40] لا يكونوا خير الأمة ، وكلاهما خلاف الكتاب والسنة .
وأيضا فالاعتبار العقلي [41] يدل على ذلك ، فإن من تأمل أمة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] [42] ، وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين [43] والمجوس والمشركين ، تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه .
في ذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار ، ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله ، وتجد من ينازع في ذلك والصحابة أكمل الأمة كالرافضة [ من أجهل ] [44] الناس .
ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ، ولا في أئمة الحديث [ ولا في أئمة ] [45] الزهد والعبادة ، ولا في الجيوش المؤيدة [ ص: 81 ] المنصورة جيش رافضي [46] ، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا [ عدوه ] [47] من هو رافضي ، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي .
وأكثر ما تجد الرافضة إما في [48] الزنادقة المنافقين [49] الملحدين ، وإما في جهال ليس لهم علم لا [50] بالمنقولات ولا بالمعقولات ، قد نشأوا بالبوادي والجبال ، أو تحيزوا عن [51] المسلمين فلم يجالسوا أهل العلم والدين ، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال ، أو [ له ] [52] نسب يتعصب له كفعل [ أهل ] [53] الجاهلية .
وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين ، فليس في هؤلاء رافضي لظهور الجهل والظلم في قولهم ، وتجد ظهور الرفض [54] في شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية [55] ، وفيهم من [ ص: 82 ] الكذب والخيانة وإخلاف [56] الوعد ما يدل على نفاقهم ، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " زاد مسلم : " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم [57] .
وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة .
وأيضا فيقال لهذا المفتري : هب أن الذين بايعوا كانوا كما ذكرت : إما طالب دنيا ، وإما جاهل فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة من يعرف كل أحد ذكاءهم وزكاءهم الصديق [58] ، مثل : سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وعلقمة والأسود وعبيدة السلماني وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء جابر بن زيد [59] ، [ ص: 83 ] [ وعلي بن زيد ] [60] وعلي بن الحسين [61] وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعروة بن الزبير ] والقاسم بن محمد [ بن أبي بكر [62] وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ومطرف بن الشخير ومحمد بن واسع وحبيب العجمي ومالك بن دينار ومكحول والحكم بن عتيبة [63] ، ومن لا يحصي عددهم ويزيد بن أبي حبيب [64] إلا الله .
ثم بعدهم مثل [65] أيوب السختياني وعبد الله بن عون [ ص: 84 ] ويونس بن عبيد وجعفر بن محمد والزهري وعمرو بن دينار ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبي الزناد ويحيى بن أبي كثير وقتادة ومنصور بن المعتمر والأعمش وحماد بن أبي سليمان وهشام الدستوائي . وسعيد بن أبي عروبة
ومن بعد هؤلاء مثل مالك بن أنس وحماد بن زيد وحماد بن سلمة ] والليث [ بن سعد [66] والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك وابن أبي ذئب . وابن الماجشون
ومن بعدهم مثل ] يحيى بن سعيد [ القطان [67] وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن القاسم وأشهب بن عبد العزيز وأبي يوسف ومحمد [ بن الحسن ] [68] والشافعي ] وأحمد [ بن حنبل [69] ] وإسحاق [ بن راهويه [70] وأبي عبيد وأبي ثور ومن لا يحصي عدده إلا الله ، ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ولا مال ، وممن هم من أعظم [71] الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه ، وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر . وعمر
( * بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد كانوا يفضلون علي [ ص: 85 ] أبا بكر . وقال وعمر ابن القاسم : سألت عن مالكا أبي بكر * ) وعمر [72] ، فقال : ما رأيت أحدا [ ممن ] [73] أقتدي به [74] يشك في تقديمهما ، يعني على علي وعثمان [75] ، فحكى إجماع أهل المدينة [76] على تقديمهما .
وأهل المدينة لم يكونوا مائلين إلى بني أمية كما كان أهل الشام ، بل قد خلعوا بيعة يزيد ، وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى [77] ، ولم يكن أيضا قتل علي [78] منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل [79] الشام بل كانوا يعدونه [80] من علماء المدينة إلى أن خرج منها ، وهم [ ص: 86 ] متفقون على تقديم أبي بكر ، ( 1 فهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته 1 ) وعمر [81] .
وروى بإسناده عن البيهقي قال : لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم الشافعي أبي بكر . وعمر
وقال شريك [ بن عبد الله ] بن أبي نمر [82] ، وقال له قائل : أيما أفضل أو أبو بكر ؟ فقال [ له ] علي [83] : أبو بكر [84] . فقال له السائل : أتقول [85] هذا وأنت من الشيعة ؟ فقال : نعم ، إنما الشيعي من يقول هذا ، والله لقد رقى هذه الأعواد ، فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها علي أبو بكر ، أفكنا نرد قوله ؟ أفكنا نكذبه ؟ والله ما كان كذابا . وذكر هذا القاضي وعمر عبد الجبار في كتاب " تثبيت النبوة " له ، وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي الذي صنفه في النقض على ابن الراوندي اعتراضه على الجاحظ [86] .
[ ص: 87 ] ( 1 فهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته 1 ) [87] ، فكيف يقال [ مع هذا ] [88] : إن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا أو جهالا ؟ ولكن هذا وصف [ الطاعن ] [89] فيهم ، فإنك [90] القبلة أعظم جهلا من الرافضة ، ولا أكثر حرصا على الدنيا . لا تجد في طوائف أهل
وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة ( 5 عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به والصحابة 5 ) [91] أبعد الناس [92] عنه ، فهم أكذب الناس بلا ريب [93] كمسيلمة الكذاب إذ قال : أنا نبي صادق ومحمد كذاب \ 8 29 ) [94] ، ولهذا . يصفون أنفسهم بالإيمان ويصفون الصحابة بالنفاق ، وهم أعظم الطوائف نفاقا ، والصحابة أعظم الخلق إيمانا