الوجه الخامس : قوله : " إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم [1] ، وأن كل ما سواه محدث ; لأنه واحد ، وأنه ليس بجسم ولا في مكان ، وإلا لكان محدثا ، بل نزهوه عن مشابهة [2] المخلوقات " [3] .
فيقال له : هذا إشارة إلى مذهب الجهمية والمعتزلة ، ومضمونه أنه ليس لله علم [4] ولا قدرة ولا حياة ، وأن أسماءه الحسنى : كالعليم والقدير والسميع والبصير والرءوف والرحيم ونحو ذلك ، لا تدل على صفات له قائمة به ، وأنه لا يتكلم ولا يرضى ولا يسخط ، ولا يحب ولا يبغض ، ولا يريد إلا ما يخلقه منفصلا عنه من الكلام والإرادة ، وأنه لم يقم به كلام .
وأما قوله : " إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات " [ ص: 103 ] فيقال له ] [5] : أهل السنة أحق بتنزيهه عن مشابهة المخلوقات من الشيعة ، فإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منه في طوائف الشيعة ، وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف ، ثم قدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب ، فقدماؤهم غلوا في التشبيه والتجسيم ، ومتأخروهم غلوا في النفي والتعطيل ، فشاركوا في ذلك الجهمية والمعتزلة دون سائر طوائف الأمة .
وأما أهل السنة المثبتون لخلافة الثلاثة ، فجميع أئمتهم وطوائفهم المشهورة متفقون على نفي التمثيل عن الله تعالى ، والذين أطلقوا لفظ " الجسم " على الله من الطوائف المثبتين لخلافة الثلاثة كالكرامية ، هم أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من الذين أطلقوا لفظ " الجسم " من الإمامية .
وقد ذكر أقوال الإمامية في ذلك غير واحد منهم [6] ومن غيرهم ، كما [ ص: 104 ] ذكرها ابن النوبختي في كتابه الكبير [7] ، وكما ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتابه المعروف في " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " [8] وكما ذكرها الشهرستاني في كتابه المعروف " بالملل والنحل " [9] ، وكما ذكرها غير هؤلاء [10] .
وطوائف السنة والشيعة تحكي عن قدماء أئمة الإمامية من منكر [ ص: 105 ] التجسيم والتشبيه ، ما لا يعرف مثله عن الكرامية وأتباعهم ممن يثبت إمامة الثلاثة .
وأما من لا يطلق على الله اسم " الجسم " ، كأئمة أهل الحديث والتفسير والتصوف والفقه ، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم ، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة ، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، فهؤلاء ليس فيهم من يقول : إن الله جسم ، وإن كان أيضا ليس من السلف والأئمة من قال : إن الله ليس بجسم . ولكن من نسب التجسيم إلى بعضهم ، فهو بحسب ما اعتقده من معنى الجسم ورآه لازما لغيره .
فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفاة الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسما مشبها ، ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة من الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم ، كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب " الزينة " [11] ، وغيره لما ذكر طوائف المشبهة [ ص: 106 ] فقال [12] : " ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى رجل يقال له مالك بن أنس ، ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى رجل يقال له الشافعي " .
وشبهة هؤلاء أن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى ، ويقولون : إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ، ويقولون : إن الله يرى في الآخرة .
هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم ، وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد والأوزاعي ، وأبي حنيفة ( والشافعي ) [13] ، وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود ، ومحمد بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي [14] ، وأبي بكر [ ص: 107 ] بن المنذر [15] ومحمد بن جرير الطبري وأصحابهم .
والجهمية والمعتزلة يقولون : من أثبت لله الصفات ، وقال : إن الله يرى في الآخرة ، والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ، فإنه مجسم مشبه ، والتجسيم باطل . وشبهتهم في ذلك أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم ، وما قام به الكلام وغيره من الصفات لا يكون إلا جسما ، ولا يرى إلا ما هو جسم أو قائم بجسم .


