وكذلك ما يثبته المشاءون من الجواهر العقلية : كالعقول والنفوس المجردة ، كالمادة والمدة والمثل الأفلاطونية ، والأعداد المجردة التي يثبتها - أو بعضها - كثير من المشائين أتباع فيثاغورس وأفلاطون [1] وأرسطو . وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن لما أثبتوه من العقليات وجود إلا في الأذهان لا في الأعيان ، وهذا لبسطه موضع آخر [2] ، وهذا المصنف لم يذكر لقوله إلا مجرد الدعوى ، فلذلك لم نبسط القول فيه .
وإنما المقصود التنبيه على أن آخر ما ينتهى إليه أصل هؤلاء - الذي [ ص: 142 ] [3] بالكتاب والسنة وإجماع السلف ، بل ولما ثبت بالفطرة العقلية التي اشترك فيها جميع أهل الفطر التي لم تفسد فطرتهم بما تلقنوه من الأقوال الفاسدة ، بل ولما ثبت بالبراهين العقلية - فالذي ينتهي إليه أصلهم هو أنه لو كان متصفا بالصفات ، أو متكلما بكلام يقوم به ، ومريدا بما يقوم به من الإرادة الحسية ، وكانت رؤيته ( ممكنة ) في الدنيا أو في الآخرة نفوا به ما ثبت [4] ، لكان مركبا من الجواهر المفردة الحسية أو الجواهر العقلية : المادة والصورة .
وهذا التلازم باطل عند جماهير العقلاء فيما نشاهد ، فإن الناس يرون الكواكب وغيرها من الأجسام ، وهي عند جماهير العقلاء ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا .
ولو قدر أن هذا التلازم حق ، فليس في حججهم حجة صحيحة يوجب انتفاؤها اللازم ، بل كل من الطائفتين تطعن في حجج الفريق الآخر وتبين فسادها ، فأولئك يقولون : إن كل ما كان كذلك فهو محدث . ومنازعوهم يطعنون في المقدمتين ويبينون فسادهما ، والآخرون يقولون : إن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه ، وأجزاؤه غيره ، فكل مركب مفتقر إلى غيره ، ومنازعوهم يثبتون فساد هذه الحجة وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة ، كما قد بسط في موضع آخر .
ولهذا يقول من يقول من العقلاء العارفين بحقيقة قول هؤلاء وهؤلاء : [ ص: 143 ] إن الواحد الذي يثبته هؤلاء لا يتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان .
ولهذا لما بنى [5] الفلاسفة الدهرية على قولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، كان من أول ما يبين فساد قولهم أن الواحد الذي ادعوا فيه ما ادعوا لا حقيقة له في الخارج ، بل يمتنع [6] وجوده فيه ، وإنما يقدر في الأذهان كما يقدر سائر الممتنعات .
وكذلك سائر الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات لما أثبتوا واحدا لا يتصف بشيء من الصفات ، كانوا عند أئمة العلم الذين يعرفون حقيقة قولهم ، إنما توحيدهم تعطيل مستلزم لنفي الخالق ، وإن كانوا قد أثبتوه فهم متناقضون ، جمعوا بين ما يستلزم نفيه وما يستلزم إثباته .
ولهذا وصفهم أئمة الإسلام بالتعطيل ، وأنهم دلاسون ولا يثبتون شيئا ولا يعبدون شيئا ونحو ذلك ، كما هو موجود في كلام غير واحد من أئمة الإسلام ، مثل عبد العزيز بن الماجشون [7] وعبد الله بن المبارك [8] وحماد [ ص: 144 ] بن زيد [9] ومحمد بن الحسن [10] وغير هؤلاء * ) وأحمد بن حنبل [11] ولا بد للدعوى من دليل .