الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ونحن [ نسلك طريقين من البيان : أحدهما : نبين فيه أن هؤلاء الذين رد عليهم من مثبتي الرؤية كالأشعري وغيره أقرب إلى الصواب من قول النفاة . الثاني : نبين في الحق بيانا مطلقا لا نذب فيه عن أحد .

                  الطريق الأول : أن ] [1] نبين أن هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المثبتة للرؤية [2] أقل خطأ وأكثر صوابا من نفاة الرؤية . ونقول لهؤلاء النفاة [ للرؤية ] [3] : أنتم أكثرتم التشنيع على الأشعرية [ ومن وافقهم من أتباع الأئمة ] [4] في مسألة الرؤية . ونحن نبين أنهم أقرب إلى الحق منكم [ نقلا [ ص: 330 ] وعقلا ] [5] ، وأن قولهم إذا كان فيه خطأ فالخطأ [ الذي في ] [6] قولكم أعظم وأفحش [7] [ عقلا ونقلا ] [8] .

                  فإذا قلتم : هؤلاء إذا أثبتوا مرئيا لا [9] في جهة كان هذا [10] مكابرة للعقل .

                  قيل لكم : لا يخلو [11] إما أن تحكموا في هذا الباب العقل ، وإما أن لا تحكموه [12] ، فإن لم تحكموه بطل قولكم ، وإن حكمتموه فقول من أثبت موجودا قائما بنفسه يرى أقرب إلى العقل [13] من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى . ولا يمكن أن يرى . و [ ذلك ] لأن [14] الرؤية لا يجوز أن يشترط في ثبوتها أمور عدمية بل لا يشترط في ثبوتها [15] إلا أمور وجودية .

                  ونحن لا ندعي هنا أن كل موجود يرى كما ادعى [16] ذلك من ادعاه فقامت عليه الشناعات ، [ فإن ابن كلاب ومن اتبعه من أتباع الأئمة [ ص: 331 ] الأربعة وغيرهم قالوا : كل قائم بنفسه يرى ، وهكذا قالت الكرامية وغيرهم فيما أظن ، وهذه الطريقة التي سلكها ابن الزاغوني من أصحاب أحمد .

                  وأما الأشعري فادعى أن كل موجود يجوز أن يرى ، ووافقه على ذلك طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وغيره ، ثم طرد قياسه فقال : كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس : السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ووافقه على ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والرازي ، وكذلك القاضي أبو يعلى وغيرهم ، وخالفهم غيرهم فقالوا : لا نثبت في ذلك الشم والذوق واللمس ، ونفوا جواز تعلق هذه بالبارئ ، والأولون جوزوا تعلق الخمس بالبارئ ، وآخرون من أهل الحديث وغيرهم أثبتوا ما جاء به السمع من اللمس دون الشم والذوق ، وكذلك المعتزلة منهم من أثبت جنس الإدراك كالبصريين ، ومنهم من نفاه كالبغداديين . والمقصود هنا بأن المثبتة ، ولو أخطئوا في بعض كلامهم فهم أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من نفاة الرؤية ] [17] .

                  فنقول [18] : من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى ، والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية ; لأن الرؤية أمر وجودي [ والمرئي لا يكون إلا موجودا ، فليست عدمية ] [19] لا تتعلق [20] بالمعدوم ، ولا [21] يكون الشرط فيه [ ص: 332 ] إلا أمرا وجوديا [ لا يكون عدميا ، وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص ] [22] ، فكل ما كان [23] وجوده أكمل كان أحق بأن يرى ، وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا [ مما يمكن أن يرى ] [24] ، فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية [ من الهواء [25] ، والضياء أحق بالرؤية ] من الظلام ; لأن النور أولى بالوجود ، والظلمة أولى بالعدم ، والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد [26] الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى ، وإنما لم نره [27] لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته ، كما أن شعاع الشمس أحق بأن يرى من جميع الأشياء .

                  ولهذا مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤية الله به فقال : " ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر " شبه الرؤية بالرؤية ، وإن لم يكن المرئي مثل المرئي ، ومع هذا فإذا حدق البصر في الشعاع [28] ضعف عن رؤيته ، لا لامتناع في [ ذات ] [29] المرئي بل لعجز الرائي ، فإذا كان في [ ص: 333 ] الدار الآخرة أكمل الله [ تعالى ] [30] الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ، ولهذا لما تجلى الله [ عز وجل ] [31] للجبل خر موسى صعقا ( فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) [ سورة الأعراف : 143 ] . قيل : أول المؤمنين [32] بأنه لا يراك حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده [33] ، فهذا للعجز [34] الموجود في المخلوق ، لا لامتناع في ذات المرئي ، بل كان المانع من ذاته ، لم يكن إلا لنقص وجوده حتى ينتهي الأمر إلى المعدوم الذي لا يتصور أن يرى [ خارج الرائي ] [35] .

                  [ ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله ، كما أيد نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى : ( وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) [ سورة الأنعام : 8 ، 9 ] قال غير واحد من السلف : هم لا يطيقون أن يروا الملك في صورته ، فلو أنزلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر ، وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر ، فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم ، فأرسلنا إليهم بشرا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه ، وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة ، ولهذا قال تعالى : ( وما صاحبكم بمجنون ) [ سورة التكوير : 22 ] ، [ ص: 334 ] وقال : ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) [ سورة النجم : 2 ] وقال : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) [ سورة التوبة : 128 ] وقال : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) [ سورة إبراهيم : 4 ] ونحو ذلك من الآيات ] [36] .

                  فإن قلتم : هؤلاء [37] يقولون : إنه يرى لا في جهة ، وهذه مكابرة . فيقال : هذا قالوه بناء على الأصل الذي اتفقتم أنتم [38] وهم عليه ، وهو أنه ليس في جهة . ثم إذا كان الكلام مع الأشعري وأئمة أصحابه ومن وافقهم من [ أصحاب الحديث ] [39] ، أصحاب أحمد وغيره كالتميميين وابن عقيل [40] وغيرهم : فيقال : هؤلاء يقولون : إنه فوق العالم بذاته ، وإنه ليس بجسم ولا متحيز .

                  فإن قلتم : هذا القول مكابرة للعقل ، لأنه إذا كان فوق العالم فلا بد أن يتميز [41] منه جانب عن جانب ، [ وإذا تميز منه جانب عن جانب ] [42] كان جسما ، فإذا أثبتوا موجودا قائما بنفسه فوق العرش [43] لا يوصف بمحاذاة [ ص: 335 ] ولا مماسة [44] ، ولا يتميز [45] منه جانب عن جانب كان هذا مكابرة .

                  فيقال : لكم : أنتم [ يا نفاة الرؤية ] [46] تقولون ومن وافقكم من المثبتين للرؤية : إنه لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباين له ولا محايث له [47] .

                  فإذا قيل لكم : هذا خلاف المعلوم بضرورة العقل [48] ، فإن العقل لا يثبت شيئين موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو داخلا فيه ، كما يثبت [49] الأعيان المتباينة والأعراض القائمة . بها وأما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه ، فهذا مما يعلم العقل [50] استحالته وبطلانه بالضرورة .

                  قلتم [51] : هذا النفي حكم الوهم لا حكم العقل ، وجعلتم في الفطرة حاكمين [52] : أحدهما الوهم والآخر العقل ، مع أن المعنى الذي سميتموه الوهم قلتم [53] هو القوة التي تدرك معاني جزئية غير محسوسة في الأعيان المحسوسة ، كالعداوة والصداقة ، كما تدرك الشاة معنى في الذئب ومعنى في الكبش ، فتميل إلى هذا وتنفر عن هذا . وإذا كان الوهم إنما [ ص: 336 ] يدرك أمورا [54] معينة فهذه القضايا التي نتكلم فيها قضايا كلية عامة ، والقضايا الكلية العامة هي للعقل لا للحس ولا للوهم الذي يتبع الحس ، فإن الحس لا يدرك إلا أمورا معينة ، وكذلك الوهم [ عندكم ] [55] . وقد بسط الرد على هؤلاء [56] في غير هذا الموضع ، لكن المقصود هنا بيان أن قول أولئك أقرب من قولهم .

                  فيقال : إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، ولا مباين له ولا محايث له [57] ، ووجود موجود مباين للعالم فوقه وهو ليس بجسم [58] ، كان تصديق العقل بالثاني أقوى من تصديقه بالأول ، وهذا موجود في فطرة كل أحد ، فقبول [59] الثاني أقرب إلى الفطرة ونفورها عن الأول أعظم فإن وجب تصديقكم في ذلك القول الذي هو عن الفطرة أبعد كان تصديق هؤلاء في قولهم أولى . وحينئذ فليس لكم أن تحتجوا على بطلان [60] ( 8 قولهم بحجة إلا وهي على بطلان قولكم أدل 8 ) [61] .

                  فإذا قلتم : [ وجود موجود فوق العالم ليس بجسم لا يعقل .

                  قيل لكم : كما أن [ [62] ] وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه لا يعقل .

                  [ ص: 337 ] فإذا قلتم : نفي هذا من حكم الوهم .

                  قيل لكم : إن كان هذا النفي من حكم الوهم وهو غير مقبول فذلك [63] النفي من حكم الوهم ، وهو غير مقبول بطريق الأولى .

                  فإذا قلتم : حكم الوهم الباطل أن يحكم في أمور غير محسوسة حكمه في أمور محسوسة [64] .

                  قيل : لكم [65] ( * أجوبة : أحدها [66] : أن هذا يبطل حجتكم على بطلان قول هؤلاء ، لأن قولكم إنه يمتنع [67] وجود موجود فوق العالم ليس بجسم ليس [68] أقوى من قول القائل يمتنع [69] وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ، [ ويمتنع وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين ، ويمتنع وجود موجود ليس داخل العالم ولا خارجا عنه ] [70] ، فإن كنتم لا تقبلون هذا الأقوى لزعمكم أنه من حكم الوهم [71] الباطل لزمكم أن لا تقبلوا ذلك الذي هو أضعف منه بطريق الأولى ، فإن كليهما على قولكم من حكم الوهم الباطل ، وفساد قولكم أبين في الفطرة من فساد [72] قول منازعيكم ، فإن كان قولهم [73] مردودا [ ص: 337 ] فقولكم أولى بالرد ، وإن كان قولكم مقبولا فقولهم أولى بالقبول .

                  الجواب الثاني : أن يقال : * ) : أنتم لم تثبتوا وجود أمور [74] لا يمكن الإحساس بها [ ابتداء ] [75] حتى يصح هذا الكلام ، بل إنما أثبتم ما ادعيتم أنه لا يمكن الإحساس به [ ابتداء ] [76] بإبطال هذا الحكم الفطري [77] الذي يحيل وجود ما لا يمكن الإحساس به بحال [78] ، فإن كان [79] هذا الحكم لا يبطل حتى يثبت [80] الأمور التي ليست بمحسوسة [81] لزم [82] الدور فلا يبطل هذا الحكم حتى يثبت ما لا يمكن الإحساس به ، ولا يثبت ذلك حتى يبطل هذا الحك ، فلا يثبت ذلك .

                  [ و ] يقال : [ لكم ] : إن [83] جاز وجود أمور لا يمكن الإحساس بها [84] فوجود ما يمكن الإحساس به أولى [85] وإن لم يمكن بطل قولكم . فمن أثبت موجودا فوق العالم ليس بجسم يمكن الإحساس به ، كان قوله [ ص: 339 ] : أقرب إلى العقل ممن أثبت موجودا لا يمكن الإحساس به وليس بداخل العالم ولا خارجه .

                  ففي الجملة أنه [86] ما من حجة يحتجون بها على بطلان قول منازعيهم [87] إلا ودلالتها على بطلان قولهم أشد ولكنهم يتناقضون . والذين وافقوهم على بعض غلطهم صاروا [88] يسلمون [89] لهم تلك المقدمة الباطلة النافية [ وهو إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ولا محايثا له [90] ولا داخل العالم ولا خارجه ] [91] ويطلبون [92] طردها ، وطردها يستلزم الباطل المحض .

                  فوجه المناظرة أن تلك المقدمة لا تسلم [93] ، لكن يقال : إن كانت باطلة بطل أصل قول النفاة ، [ وإن كانت صحيحة فهي أدل على إمكان قول [94] أهل الإثبات ، فإن كان إثبات موجود ليس بجسم ولا هو داخل العالم ولا خارجه ممكنا ، فإثبات موجود فوق العالم وليس بجسم أولى بالإمكان ، وإن لم يكن ذلك ممكنا بطل أصل قول النفاة ] [95] ، وثبت أن الله [ تعالى ] [96] إما داخل العالم وإما خارجه فيكون قولهم بإثبات موجود [ ص: 340 ] ليس بداخل العالم ولا خارجه أبعد عن الحق على التقديرين ، وهو المطلوب .

                  ثم يقال : رؤية ما ليس بجسم ولا في جهة إما أن يجوزه العقل وإما أن يمنعه ، فإن جوزه فلا كلام ، وإن منعه كان منع العقل لإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، بل هو حي بلا حياة ، عليم بلا علم ، قدير بلا قدرة ، أشد وأشد .

                  فإن [97] قلتم : هذا المنع من حكم الوهم .

                  قيل لكم : والمنع من رؤية مرئي ليس في جهة من حكم الوهم ، وهذا هو الجواب الثالث .

                  وبيان ذلك أن [ يقال : ] [98] : حكم الوهم الباطل عندكم أن يحكم في أمور غير محسوسة [99] بما يحكم به في الأمور المحسوسة .

                  فيقال : [100] : الباري تعالى إما أن تكون رؤيته ممكنة ، وإما أن لا تكون [101] . فإن كانت ممكنة بطل قولكم بإثبات موجود [102] غير محسوس ، ولم يبق هنا [103] وهم باطل يحكم في غير المحسوس [104] بحكم باطل ، فإنكم لرؤية الباري أشد منعا من رؤية الملائكة والجن وغير ذلك ، فإذا [ ص: 341 ] جوزتم رؤيته فرؤية الملائكة والجن أولى ، وإن قلتم : بل رؤيته غير ممكنة . قيل : فهو حينئذ [105] غير محسوس فلا يقبل فيه [106] حكم الوهم ، والحكم بأن كل مرئي لا بد أن يكون في جهة من حكم الوهم .

                  وأما إذا قدرنا [107] موجودا غير محسوس يرى لا في جهة [ رؤية ] [108] غير الرؤية المتعلقة بذوات الجهة [109] ، كان إبطال هذا مثل إبطال موجود لا داخل العالم ولا خارجه ، [ وإلا ] فإذا [110] ثبت وجود هذا الموجود كانت الرؤية [111] المتعلقة به مناسبة له ، ولم تكن كالرؤية المعهودة للأجسام .

                  فهذه الطريق ونحوها من المناظرة العقلية إذا سلك يتبين به أن كل من كان إلى السنة أقرب كان قوله إلى العقل أقرب ، وهو يوجب نصر [112] الأقربين إلى السنة بالعقل لكن لما كان [ بعض ] الأقربين [113] إلى السنة سلموا للأبعدين [114] عنها مقدمات بينهم ، وهي في نفس الأمر باطلة مخالفة للشرع والعقل ، لم يمكن أن يكون قولهم مطابقا للأمر في نفسه ، ولا يمكن نصره لا بشرع صحيح ولا بعقل صريح [115] ، لمن غرضه معرفة الحق في نفسه لا بيان رجحان بعض الأقوال على بعض .

                  [ ص: 342 ] [116] [ وأما إذا كان المقصود بيان رجحان بعض الأقوال فهذا ممكن في نفسه ، وهذا هو الذي نسلكه في كثير مما عاب به الرافضة كثير من الطوائف المنتسبين إلى السنة في إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة [117] ، فإنهم عابوا كثيرا منهم بأقوال هي معيبة مذمومة ، والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق ، وألا نقول عليه إلا بعلم ، وأمرنا بالعدل والقسط ، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني - فضلا عن الرافضي - قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله ، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق .

                  ولهذا جعل هذا الكتاب : " منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية " فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضا بدعة وباطل ، وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام ، ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد ، لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا ، وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ، ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق ، لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال . وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله ، ولهذا لم نرد ما تقوله : المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه ، لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك .

                  [ ص: 343 ] فالمنتسبون إلى إثبات خلافة الأربعة وتفضيل الشيخين ، وإن كان بعضهم يقول أقوالا فاسدة فأقوال الرافضة أفسد منها ، وكذلك المناظر للفلاسفة والمعتزلة من المنتسبين إلى السنة كالأشعري وأمثاله وإن كانوا قد يقولون أقوالا باطلة ، ففي أقوال المعتزلة والفلاسفة من الباطل ما هو أعظم منها ، فالواجب إذا كان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل ، ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدا ، فإن هذا محرم ومذموم ، يذم به صاحبه ، ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف ، كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك ، ولبسط هذه الأمور مكان آخر ، والله أعلم .

                  والمقصود هنا التنبيه على وجه المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل ، لا بجهل وظلم . وأما مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل ، فأعظم ما يستفاد منها بيان إبطال بعضهم لمقالة بعض .

                  وأبو حامد الغزالي وغيره يعتقدون أن هذه الفائدة هي المقصودة بالكلام دون غيرها ، لكن يعتقد مع ذلك أن ما ذكره هو العقيدة التي تعبد الشارع الناس باعتقادها ، وأن لها باطنا يخالف ظاهرها في بعض الأمور ، وما ذكره من الاعتقاد يوافق الشرع من وجه دون وجه ، وما ثبت عن صاحب الشرع فلا يناقض باطنه ظاهره ، والمقصود هنا أن يكون المقصود بالمناظرة بيان رجحان بعض الأقوال على بعض ] [118] [ ص: 344 ] ولهذا كان كثير من مناظرة أهل الكلام إنما هي في بيان فساد [119] مذهب المخالفين وبيان تناقضهم ، لأنه يكون كل من القولين باطلا ، فما [120] يمكن أحدهم نصر قوله مطلقا فيبين فساد قول خصمه . وهذا يحتاج إليه إذا كان صاحب المذهب [121] حسن الظن بمذهبه ، قد بناه على مقدمات يعتقدها صحيحة ، فإذا أخذ الإنسان معه في تقرير نقيض تلك المقدمات لم يقبل ولا يبين الحق [122] ، ويطول الخصام كما طال بين أهل الكلام .

                  فالوجه في ذلك أن يبين لذلك [123] رجحان مذهب غيره عليه أو فساد [124] مذهبه بتلك المقدمات وغيرها ، فإذا رأى تناقض قوله أو رجحان قول [ غيره ] على قوله [125] اشتاق حينئذ إلى معرفة الصواب وبيان جهة الخطأ ، فيبين له [126] فساد تلك المقدمات التي بنى عليها وصحة نقيضها ، ومن أي وجه وقع الغلط .

                  وهكذا في مناظرة الدهري [127] واليهودي والنصراني والرافضي [ ص: 345 ] وغيرهم [128] ، إذا سلك معهم هذا الطريق نفع في موارد النزاع فتبين لهم [129] ، وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل ، فإذا خوطبت بين لها أن الحق الذي ندعوكم إليه [130] هو أولى بالقبول من الذي وافقناكم عليه ، ونبوة [131] محمد - صلى الله عليه وسلم - أولى بالقبول من نبوة موسى وعيسى [ عليهما السلام ] [132] ، وخلافة أبي بكر وعمر أولى بالصحة [133] من خلافة علي ، فما [ ذكر ] [134] من طريق صحيح يثبت بها نبوة هذا [ وهذا ] [135] إلا وهي تثبت [ بها ] [136] نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى ، ( 10 وما من طريق صحيح يثبت بها خلافة علي إلا وهي تثبت خلافة هذين بطريق الأولى 10 ) [137] ، ويبين [138] لهم أن ما يدفعون به هذا الحق يمكن أن يدفع به الحق [139] الذي معهم ، فما يقدح شيء [140] في ( * موارد النزاع إلا كان قدحا [141] في موارد الإجماع ، وما من شيء يثبت به موارد الإجماع إلا وهو يثبت به [142] موارد النزاع * ) [143] ، وما من سؤال يرد على نبوة محمد [ صلى [ ص: 346 ] الله عليه وسلم ] [144] وخلافة الشيخين [145] إلا ويرد على نبوة غيره [146] وخلافة غيرهما ما هو مثله أو أعظم [147] منه ، [ وما من دليل يدل على نبوة غير محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلافة غيرهما إلا والدليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وخلافتهما أقوى منه ] [148] .

                  وأما الباطل الذي بأيدي المنازعين [149] فتبين [150] أنه يمكن معارضته بباطل مثله ، وأن الطريق الذي يبطل به ذلك الباطل يبطل به باطلهم ، فمن ادعى الإلهية في المسيح أو علي أو غيرهما عورض بدعوى الإلهية في موسى وآدم وعمر بن الخطاب ، فلا يذكر شبهة يظن بها الإلهية إلا ويذكر في الآخر نظيرها وأعظم منها ، فإذا تبين له فساد أحد المثلين [151] تبين له فساد الآخر ، فالحق يظهر صحته بالمثل المضروب له والباطل يظهر فساده بالمثل المضروب له ، لأن الإنسان قد لا يعلم ما في نفس محبوبه أو مكروهه من حمد وذم إلا بمثل يضرب له ، فإن حبك الشيء يعمي ويصم .

                  [ والله سبحانه ضرب الأمثال للناس في كتابه لما في ذلك من البيان ، والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراها في مرآة ، [ ص: 347 ] وتمثل له أعماله بأعمال غيره ] [152] ، ولهذا ضرب الملكان المثل لداود [ عليه السلام ] [153] بقول أحدهما : ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) [ سورة : ص : 23 - 24 ] الآية . وضرب الأمثال مما يظهر به الحال ، وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده . قال [154] تعالى : ( ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون ) [ سورة الروم : 27 ] ، وقال تعالى : ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) [ سورة العنكبوت : 43 ] .

                  [155] [ وهذا من الميزان الذي أنزله [156] الله ، كما قال تعالى : ( الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ) [ سورة الشورى : 17 ] ، وقال : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) [ سورة الحديد : 25 ] .

                  وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع ، وبين أن كل قياس عقلي شمولي سواء كان على طريقة المنطق اليوناني أو غير طريقه فإنه من جنس القياس التمثيلي وأن مقصود القياسين واحد ، وكلاهما داخل في معنى الميزان الذي أنزله الله تعالى ، وأن ما يختص به أهل المنطق اليوناني بعضه باطل وبعضه تطويل لا يحتاج إليه ، بل ضرره في الغالب أكثر من نفعه كما قد بسط الكلام على المنطق اليوناني [ ص: 348 ] وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية