الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  التاسع :

                  وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطاعة الأئمة الموجودين [1] [ المعلومين ] [2] الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا من ليس له سلطان ، ولا قدرة [3] على شيء أصلا ، كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاجتماع ، والائتلاف ، ونهى عن الفرقة ، والاختلاف ، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقا ، بل أمر بطاعتهم في طاعة [ ص: 116 ] الله دون معصيته ، وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين .

                  ففي [4] صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ، ويحبونكم ، وتصلون عليهم ، ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ، ويبغضونكم ، وتلعنونهم ، ويلعنوكم . ) قال : قلنا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم عند ذلك قال : ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال ، فرآه يأتي شيئا من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يدا من طاعة . ) [5] .

                  وفي [ صحيح ] [6] مسلم عن أم سلمة أن النبي . [7] - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ستكون أمراء ، فتعرفون ، وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع . ) قالوا : [ يا رسول الله ] [8] أفلا نقاتلهم ؟ قال : ( لا ما صلوا . ) [9] .

                  [ ص: 117 ] وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور ، وأنه يكره ، وينكر ما يأتونه من معصية الله ، ولا تنزع [10] اليد من طاعتهم ، بل يطاعون في طاعة الله ، وأن منهم خيارا ، وشرارا من يحب ، ويدعى له ، ويحب الناس ، ويدعو لهم ، ومن يبغض ، ويدعو على الناس ، ويبغضونه ، ويدعون عليه .

                  وفي الصحيحين [11] [ عن أبي هريرة ] [12] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء ، فتكثر [13] قالوا : فما تأمر ؟ قال : ( فوا ببيعة الأول ، فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم . ) [14] ، فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين [15] ، وأمر أن يوفى ببيعة [ ص: 118 ] الأول فالأول ، وأن يعطوهم [16] حقهم .

                  وفي الصحيحين عن [ عبد الله ] [17] بن مسعود قال : قال . لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنكم سترون بعدي أثرة ، وأمورا تنكرونها . ) قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : ( أدوا إليهم حقهم ، وسلوا الله حقكم . ) ، وفي لفظ : ( ستكون أثرة ، وأمور تنكرونها . ) قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : ( تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم . ) [18] .

                  وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع ، والطاعة في اليسر ، والعسر [19] ، والمنشط ، والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم [20] .

                  [ ص: 119 ] وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( على المرء المسلم السمع ، والطاعة فيما أحب ، وكره إلا أن يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية ، فلا سمع ، ولا طاعة . ) [21] .

                  فإن قال : أنا أردت بقولي إنها ( أهم المطالب في الدين ، وأشرف مسائل المسلمين . ) المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه هي مسألة الإمامة .

                  قيل له : فلا لفظ فصيح ، ولا معنى صحيح ، فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى ، بل مفهوم اللفظ ، ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقا ، وأشرف مسائل المسلمين مطلقا .

                  وبتقدير أن يكون هذا مرادك ، فهو معنى باطل ، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسائل أشرف من هذه ، وبتقدير أن تكون هي الأشرف ، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب ، وأفسد المطالب .

                  وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي - رضي الله عنه - [22] ، [ وأما ] [23] على عهد الخلفاء الثلاثة ، فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة ، [ ص: 120 ] وما انفصلوا حتى اتفقوا ، ومثل هذا لا يعد نزاعا ، ولو قدر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فليس كل ما [24] تنوزع فيه عقب موته . [ - صلى الله عليه وسلم - ] [25] يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل .

                  وإذا كان كذلك ، فمعلوم أن مسائل ( 3 القدر ، والتعديل ، والتجوير ، والتحسين ، والتقبيح 3 ) [26] ، والتوحيد ، والصفات ، والإثبات ، والتنزيه أهم وأشرف من مسائل الإمامة ، ومسائل الأسماء ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد ، والعفو ، والشفاعة ، والتخليد أهم من مسائل الإمامة .

                  ولهذا كل من صنف في أصول الدين يذكر مسائل الإمامة في الآخر حتى الإمامية يذكرون مسائل التوحيد ، والعدل ، والنبوة قبل مسائل الإمامة ، وكذلك المعتزلة يذكرون [27] أصولهم الخمس : التوحيد ، والعدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، وإنفاذ الوعيد ، والخامس : هو الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبه تتعلق مسائل الإمامة .

                  ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة ، فإنهم يقرون بأن الإمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد ، وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين ، أو قريبا من ذلك ، وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ، فهم في هذه المدة لم ينتفعوا [ ص: 121 ] بإمامته لا في دين ، ولا في دنيا ، بل يقولون : إن عندهم علما منقولا عن غيره .

                  فإن كانت أهم مسائل الدين ، وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها ، فقد فاتهم من الدين أهمه ، وأشرفه ، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد ، والعدل ؛ لأنه يكون ناقصا بالنسبة إلى مقصود الإمامة ، فيستحقون العذاب ، كيف وهم يسلمون أن مقصود الإمامة إنما هو . [28] في الفروع الشرعية ، وأما الأصول العقلية فلا يحتاج فيها إلى الإمام ، وتلك هي أهم وأشرف .

                  ثم بعد هذا كله ، فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب ، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ، ودنياهم ، وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ، ولا في الدنيا ، فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل ، ويكثر القال والقيل . ويفارق جماعة المسلمين ، ويلعن السابقين ، والتابعين ، ويعاون الكفار ، والمنافقين ، ويحتال بأنواع الحيل ، ويسلك ما أمكنه من السبل . ويعتضد بشهود الزور ، ويدلي أتباعه بحبل الغرور ، ويفعل ما يطول وصفه ، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ، ونهيه ، ويعرفه ما يقربه إلى الله [ تعالى ] [29] ؟ .

                  ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ، ونسبه لم يظفر بشيء من مطلوبه ، ولا وصل إليه [ شيء ] [30] من تعليمه ، وإرشاده ، ولا أمره ، ولا نهيه ، ولا حصل له [ ص: 122 ] من جهته منفعة ، ولا مصلحة أصلا إلا إذهاب نفسه ، وماله ، وقطع الأسفار ، وطول الانتظار بالليل والنهار ، ومعاداة الجمهور لداخل في سرداب ليس له عمل ، ولا خطاب ، ولو كان موجودا بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين ، فكيف عقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس ، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ، ولم يعقب ، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري [31] ، وعبد الباقي بن قانع [32] ، وغيرهما من أهل العلم بالنسب ؟ .

                  وهم يقولون : إنه دخل السرداب بعد موت أبيه ، وعمره إما سنتان ، وإما ثلاث ، وإما خمس ، وإما نحو ذلك ، ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد ، ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه [33] ، فإذا صار له سبع سنين أمر بالطهارة ، والصلاة ، فمن لا توضأ ، ولا صلى ، وهو تحت حجر وليه في نفسه ، وماله بنص القرآن لو كان موجودا يشهده العيان لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان ، فكيف إذا كان معدوما ، أو مفقودا مع طول هذه الغيبة ؟ .

                  [ ص: 123 ] والمرأة إذا غاب عنها [34] وليها زوجها الحاكم ، أو الولي الحاضر لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الولي المعلوم الموجود ، فكيف تضيع مصلحة الأمة [35] مع طول هذه المدة مع هذا الإمام المفقود ؟ .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية