التاسع :
وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطاعة الأئمة الموجودين [1] [ المعلومين ] [2] الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا من ليس له سلطان ، ولا قدرة [3] على شيء أصلا ، كما ، بل أمر بطاعتهم في طاعة [ ص: 116 ] الله دون معصيته ، وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين . أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاجتماع ، والائتلاف ، ونهى عن الفرقة ، والاختلاف ، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقا
ففي [4] صحيح عن مسلم عوف بن مالك الأشجعي قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( . ) خيار أئمتكم الذين تحبونهم ، ويحبونكم ، وتصلون عليهم ، ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ، ويبغضونكم ، وتلعنونهم ، ويلعنوكم . ) قال : قلنا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم عند ذلك قال : ( لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال ، فرآه يأتي شيئا من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يدا من طاعة [5] .
وفي [ صحيح ] [6] مسلم عن أن النبي . أم سلمة [7] - صلى الله عليه وسلم - قال : ( [8] أفلا نقاتلهم ؟ قال : ( لا ما صلوا . ) ستكون أمراء ، فتعرفون ، وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع . ) قالوا : [ يا رسول الله ] [9] .
[ ص: 117 ] وهذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور ، وأنه يكره ، وينكر ما يأتونه من معصية الله ، ولا تنزع [10] اليد من طاعتهم ، بل يطاعون في طاعة الله ، وأن منهم خيارا ، وشرارا من يحب ، ويدعى له ، ويحب الناس ، ويدعو لهم ، ومن يبغض ، ويدعو على الناس ، ويبغضونه ، ويدعون عليه .
وفي الصحيحين [11] [ عن ] أبي هريرة [12] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء ، فتكثر [13] قالوا : فما تأمر ؟ قال : ( فوا ببيعة الأول ، فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم . ) كانت [14] ، فقد أخبر أن بعده خلفاء كثيرين [15] ، وأمر أن يوفى ببيعة [ ص: 118 ] الأول فالأول ، وأن يعطوهم [16] حقهم .
وفي الصحيحين عن [ [17] بن مسعود قال : قال . لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( عبد الله ] . ) ، وفي لفظ : ( إنكم سترون بعدي أثرة ، وأمورا تنكرونها . ) قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : ( أدوا إليهم حقهم ، وسلوا الله حقكم . ) ستكون أثرة ، وأمور تنكرونها . ) قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : ( تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم [18] .
وفي الصحيحين عن قال : عبادة بن الصامت [19] ، والمنشط ، والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع ، والطاعة في اليسر ، والعسر [20] .
[ ص: 119 ] وفي الصحيحين عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ابن عمر . ) على المرء المسلم السمع ، والطاعة فيما أحب ، وكره إلا أن يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية ، فلا سمع ، ولا طاعة [21] .
فإن قال : أنا أردت بقولي إنها ( أهم المطالب في الدين ، وأشرف مسائل المسلمين . ) المطالب التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذه هي مسألة الإمامة .
قيل له : فلا لفظ فصيح ، ولا معنى صحيح ، فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى ، بل مفهوم اللفظ ، ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقا ، وأشرف مسائل المسلمين مطلقا .
وبتقدير أن يكون هذا مرادك ، فهو معنى باطل ، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسائل أشرف من هذه ، وبتقدير أن تكون هي الأشرف ، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب ، وأفسد المطالب .
وذلك أن علي - رضي الله عنه - النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة [22] ، [ وأما ] [23] على عهد الخلفاء الثلاثة ، فلم يظهر نزاع إلا ما جرى يوم السقيفة ، [ ص: 120 ] وما انفصلوا حتى اتفقوا ، ومثل هذا لا يعد نزاعا ، ولو قدر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فليس كل ما [24] تنوزع فيه عقب موته . [ - صلى الله عليه وسلم - ] [25] يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل .
وإذا كان كذلك ، فمعلوم أن مسائل ( 3 القدر ، والتعديل ، والتجوير ، والتحسين ، والتقبيح 3 ) [26] ، والتوحيد ، والصفات ، والإثبات ، والتنزيه أهم وأشرف من مسائل الإمامة ، ومسائل الأسماء ، والأحكام ، والوعد ، والوعيد ، والعفو ، والشفاعة ، والتخليد أهم من مسائل الإمامة .
ولهذا كل من صنف في أصول الدين يذكر مسائل الإمامة في الآخر حتى الإمامية يذكرون مسائل التوحيد ، والعدل ، والنبوة قبل مسائل الإمامة ، وكذلك المعتزلة يذكرون [27] أصولهم الخمس : التوحيد ، والعدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، وإنفاذ الوعيد ، والخامس : هو الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبه تتعلق مسائل الإمامة .
ولهذا كان جماهير الأمة نالوا الخير بدون مقصود الإمامة التي تقولها الرافضة ، فإنهم يقرون بأن الإمام الذي هو صاحب الزمان مفقود لا ينتفع به أحد ، وأنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين ، أو قريبا من ذلك ، وهو الآن غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ، فهم في هذه المدة لم ينتفعوا [ ص: 121 ] بإمامته لا في دين ، ولا في دنيا ، بل يقولون : إن عندهم علما منقولا عن غيره .
فإن كانت أهم مسائل الدين ، وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها ، فقد فاتهم من الدين أهمه ، وأشرفه ، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد ، والعدل ؛ لأنه يكون ناقصا بالنسبة إلى مقصود الإمامة ، فيستحقون العذاب ، كيف وهم يسلمون أن مقصود الإمامة إنما هو . [28] في الفروع الشرعية ، وأما الأصول العقلية فلا يحتاج فيها إلى الإمام ، وتلك هي أهم وأشرف .
ثم بعد هذا كله ، فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب ، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة لما فيها من مصلحة الخلق في دينهم ، ودنياهم ، وإمامكم صاحب الوقت لم يحصل لكم من جهته مصلحة لا في الدين ، ولا في الدنيا ، فأي سعي أضل من سعي من يتعب التعب الطويل ، ويكثر القال والقيل . ويفارق جماعة المسلمين ، ويلعن السابقين ، والتابعين ، ويعاون الكفار ، والمنافقين ، ويحتال بأنواع الحيل ، ويسلك ما أمكنه من السبل . ويعتضد بشهود الزور ، ويدلي أتباعه بحبل الغرور ، ويفعل ما يطول وصفه ، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ، ونهيه ، ويعرفه ما يقربه إلى الله [ تعالى ] [29] ؟ .
ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ، ونسبه لم يظفر بشيء من مطلوبه ، ولا وصل إليه [ شيء ] [30] من تعليمه ، وإرشاده ، ولا أمره ، ولا نهيه ، ولا حصل له [ ص: 122 ] من جهته منفعة ، ولا مصلحة أصلا إلا إذهاب نفسه ، وماله ، وقطع الأسفار ، وطول الانتظار بالليل والنهار ، ومعاداة الجمهور لداخل في سرداب ليس له عمل ، ولا خطاب ، ولو كان موجودا بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين ، فكيف عقلاء الناس يعلمون أنه ليس معهم إلا الإفلاس ، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ، ولم يعقب ، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري [31] ، وعبد الباقي بن قانع [32] ، وغيرهما من أهل العلم بالنسب ؟ .
وهم يقولون : إنه دخل السرداب بعد موت أبيه ، وعمره إما سنتان ، وإما ثلاث ، وإما خمس ، وإما نحو ذلك ، ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد ، ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه [33] ، فإذا صار له سبع سنين أمر بالطهارة ، والصلاة ، فمن لا توضأ ، ولا صلى ، وهو تحت حجر وليه في نفسه ، وماله بنص القرآن لو كان موجودا يشهده العيان لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان ، فكيف إذا كان معدوما ، أو مفقودا مع طول هذه الغيبة ؟ .
[ ص: 123 ] والمرأة إذا غاب عنها [34] وليها زوجها الحاكم ، أو الولي الحاضر لئلا تفوت مصلحة المرأة بغيبة الولي المعلوم الموجود ، فكيف تضيع مصلحة الأمة [35] مع طول هذه المدة مع هذا الإمام المفقود ؟ .