الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه العاشر : أن يقال هذا السؤال وارد على ( هذا ) المصنف [1] وعلى غيره من محققي المعتزلة والرافضة الذين اتبعوا أبا الحسين البصري [2] حيث قال إنه مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور ، وذلك أن الله خلق الداعي في العبد . وقول أبي الحسين ومتبعيه في القدر [3] وهو قول محققي أهل السنة الذين يقولون : إن الله خلق قدرة العبد وإرادته ، وذلك مستلزم لخلقه [4] فعل العبد ، ويقولون : إن العبد فاعل لفعله حقيقة ( ومحدث لفعله ) [5] ، والله سبحانه جعله فاعلا له [6] محدثا له ، وهذا قول جماهير [ ص: 75 ] أهل السنة من جميع الطوائف ، وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي والجويني الملقب بإمام الحرمين وغيرهما [7] .

                  وإذا كان هذا قول محققي المعتزلة والشيعة ، وهو قول [8] جمهور أهل السنة وأئمتهم بقي الخلاف بين القدرية الذين يقولون : إن الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيئة من الله ولا قدرة ، وبين الجهمية المجبرة الذين يقولون : إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه ، وأن العبد ليس فاعلا لفعله ، كما يقول ذلك الجهم بن صفوان إمام المجبرة ومن اتبعه [9] ، وإن أثبت أحدهم [10] كسبا لا يعقل ، كما أثبته الأشعري ومن وافقه . وإذا كان [11] هذا النزاع في هذا الأصل بين القدرية النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة ويجعل فيهم داعيا إليها ويختصهم [12] بذلك دون الكافرين ، وبين المجبرة الغلاة الذين يقولون : إن العباد لا يفعلون [13] شيئا ولا قدرة لهم على شيء ، أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئا ولا تأثير لها في شيء فكلا القولين باطل ، مع أن كثيرا من الشيعة يقولون بقول المجبرة .

                  وأما السلف والأئمة القائلون بإمامة الخلفاء الثلاثة فلا يقولون لا بهذا [ ص: 76 ] ولا بهذا . فتبين أن قول أهل السنة القائلين بخلافة [14] الثلاثة هو الصواب ، وأن من أخطأ من أتباعهم في شيء فخطأ الشيعة أعظم من خطئهم [15] .

                  وهذا السؤال إنما يتوجه على من يسوغ الاحتجاج بالقدر ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بكون هذا مقدرا علي [16] ، ويرى أن شهود هذا هو شهود الحقيقة ، أي الحقيقة الكونية . وهؤلاء كثيرون في الناس ، وفيهم [17] من يدعي أنه من الخاصة العارفين أهل التوحيد الذين فنوا في [ توحيد ] [18] الربوبية ، ويقول [19] إن العارف إذا فني [20] في شهود توحيد الربوبية لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة ، ويقول بعضهم [21] : من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ، ويقول بعضهم : الخضر [22] إنما سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة ، وهذا الضرب كثير في متأخري الشيوخ والنساك [23] [ والصوفية ] [24] والفقراء ، بل وفي [25] الفقهاء والأمراء والعامة .

                  ولا ريب أن هؤلاء شر من المعتزلة والشيعة الذين يقرون بالأمر والنهي [ ص: 77 ] وينكرون القدر ، وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنة ، فإن من أقر بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وفعل الواجبات وترك المحرمات ، ولم يقل : إن الله خلق أفعال العباد ولا يقدر على ذلك ولا شاء [ المعاصي ] هو قد قصد [26] تعظيم الأمر وتنزيه الله عن الظلم وإقامة حجة الله على نفسه ، لكن ضاق عطنه فلم يحسن الجمع بين قدرة الله التامة ومشيئته [27] العامة وخلقه الشامل ، وبين عدله وحكمته ، وأمره ونهيه ، ووعده ووعيده [28] ، فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك .

                  والذين أثبتوا قدرته ومشيئته وخلقه وعارضوا بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده [29] ، شر من اليهود والنصارى كما قال هذا المصنف . فإن قولهم يقتضي إفحام الرسل ، ونحن إنما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلا . وأما الحق فعلينا أن نقبله من كل قائل ، وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ، ولا يقابل باطلا بباطل ، والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة فالمحتجون به على الأمر أعظم بدعة ، وإن كان أولئك يشبهون المجوس فهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين للرسل [30] الذين قالوا : لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء .

                  وقد كان في أواخر عصر الصحابة [ رضي الله عنهم أجمعين ] [31] جماعة من هؤلاء القدرية ، وأما المحتجون بالقدر على الأمر فلا تعرف لهم طائفة [ ص: 78 ] من طوائف المسلمين معروفة ، وإنما كثروا في المتأخرين ، وسموا هذا حقيقة ، وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ، ولم يميزوا بين الحقيقة الدينية الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص والصبر والشكر والتوكل والمحبة لله ، وبين الحقيقة الكونية القدرية التي يؤمن بها ولا يحتج بها على المعاصي لكن يسلم إليها عند المصائب .

                  فالعارف يشهد القدر في المصائب فيرضى ويسلم ويستغفر ويتوب من الذنوب والمعايب ، كما قال تعالى : فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك [ سورة غافر : 55 ] ، فالعبد مأمور بأن يصبر على المصائب ويستغفر من المعايب .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية