ومن هذا الباب حديث آدم وموسى عليهما السلام ، قد أخرجاه في الصحيحين وغيرهما عن احتجاج رضي الله عنه ، وروي بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عمر آدم وموسى " وفي لفظ احتج موسى قال : " يا رب أرني [1] آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته ، فقال موسى : يا آدم [2] أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم [3] : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ، وكتب لك التوراة بيده ، فبكم تجد فيها مكتوبا : " وعصى آدم ربه فغوى " قبل أن [ ص: 79 ] أخلق ؟ قال : بأربعين سنة [4] قال : فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى " . أن [5] .
فهذا الحديث ظن فيه [6] طوائف أن آدم احتج بالقدر على الذنب ، وأنه حج موسى بذلك ، فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث ، وطائفة يقولون : الاحتجاج بهذا سائغ [7] في الآخرة لا في الدنيا ، [ وطائفة يقولون : هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة ] [8] ، وطائفة كذبت هذا الحديث [9] كالجبائي وغيره ، وطائفة تأولته تأويلات فاسدة [10] مثل قول بعضهم : إنما حجه لأنه كان [ ص: 80 ] قد تاب [11] ، وقول آخر : كان أباه [12] والابن لا يلوم أباه ، وقول بعضهم : كان الذنب في شريعة [13] واللوم في أخرى .
وهكذا كله تعريج عن مقصود الحديث ، فإن الحديث إنما تضمن التسليم للقدر عند المصائب ، فإن موسى لم يلم آدم لحق الله الذي في الذنب ، وإنما [14] لامه لأجل ما لحق الذرية من المصيبة ; ولهذا قال أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة . وقال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ وهذا [15] روي في بعض طرق الحديث وإن لم يكن في جميعها .
وهو حق [16] ، فإن آدم كان قد تاب من الذنب ، وموسى أعلم بالله من [ ص: 81 ] أن يلوم تائبا ، وهو أيضا قد تاب حيث قال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ سورة القصص : 16 ] وقال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين [ سورة الأعراف : 143 ] ، وقال : فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك [ سورة الأعراف : 155 ، 156 ] ، وأيضا فإن المذنبين من الآدميين كثير ، فتخصيص [17] آدم باللون دون الناس لا وجه له .
وأيضا فآدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على الذنب بالقدر ويقبله الآخر ، فإن هذا لو كان مقبولا لكان لإبليس الحجة بذلك أيضا [18] ، ولقوم نوح وعاد وثمود وفرعون .
وإن كان من احتج على موسى بالقدر لركوب الذنب قد حجه ، ففرعون أيضا يحجه بذلك [19] . وإن كان آدم إنما حج موسى لأنه رفع اللوم [20] عن المذنب [21] لأجل القدر فيحتج بذلك [22] عليه إبليس من امتناعه من السجود لآدم ، وفي الحقيقة هذا إنما هو احتجاج على الله [23] ، وهؤلاء هم خصماء الله القدرية الذين يحشرون [24] يوم القيامة إلى النار حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
[ ص: 82 ] والآثار المروية في ذم القدرية تتناول هؤلاء أعظم من تناولها المنكرين للقدر تعظيما للأمر وتنزيها عن الظلم ، ولهذا يقرنون [25] القدرية بالمرجئة لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد [26] ، وكذلك هؤلاء القدرية تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده ، ومن فعل هذا كان ملعونا في كل شريعة كما روي : لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا .
والخائضون في القدر بالباطل [27] ثلاثة أصناف : المكذبون به ، والدافعون للأمر والنهي [ به ] [28] ، والطاعنون على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر ، وهؤلاء شر الطوائف ويحكى [29] في ذلك مناظرة عن إبليس والدافعون به للأمر [30] بعدهم في الشر ، والمكذبون به بعد هؤلاء .
وأنت إذا رأيت تغليظ السلف على المكذبين بالقدر فإنما ذاك لأن الدافعين للأمر لم يكونوا يتظاهرون بذلك ، ولم يكونوا موجودين كثيرين ، وإلا فهم شر منهم ، كما أن الروافض شر من الخوارج في الاعتقاد ، ولكن الخوارج أجرأ على السيف والقتال منهم ، فلإظهار القول ومقاتلة المسلمين عليه [31] جاء فيهم ما لا يجيء فيمن هم [32] من جنس المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
[ ص: 83 ] فتبين أن آدم احتج على موسى بالقدر من جهة المصيبة التي لحقته ولحقت الذرية ، والمصيبة تورث نوعا من الجزع يقتضي لوم من كان سببها ، فتبين له أن هذه المصيبة وسببها كان مقدورا مكتوبا ، والعبد مأمور أن يصبر على قدر الله ويسلم لأمر الله [33] فإن هذا من جملة ما أمره [34] الله به ، كما قال تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ سورة التغابن : 11 ] قالت [35] طائفة من السلف كابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .
[ فهذا الكلام الذي قاله هذا المصنف وأمثال ] هذا الكلام يقال لمن احتج بالقدر [36] على المعاصي ، ثم يعلم أن هذه الحجة باطلة بصريح العقل عند كل أحد مع الإيمان بالقدر .
وبطلان هذه الحجة لا يقتضي التكذيب بالقدر ، وذلك أن بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب [37] المنفعة ودفع المضرة ، لا يعيشون ولا يصلح لهم دين ولا دنيا إلا بذلك ، فلا بد أن يأتمروا [38] وإنما فيه تحصيل [39] منافعهم ودفع مضارهم ، سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث ، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم ، والرسل [40] صلوات الله عليهم [ ص: 84 ] بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك ، والمكذبون للرسل انعكس الأمر في حقهم ، فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح ، فهم شر الناس ، ولا بد لهم مع ذلك من أمور يجتلبونها ، وأمور يجتنبونها ، وأن يتدافعوا جميعا ما يضرهم [41] من الظلم والفواحش ونحو ذلك . فلو ظلم بعضهم بعضا في دمه وماله وعرضه وحرمته [42] فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة ، لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاجه بالقدر . ولو قال : اعذروني فإن هذا كان مقدرا علي . لقالوا له [43] : وأنت لو فعل بك هذا [44] فاحتج عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه .
وقبول هذه الحجة يوجب الفساد الذي لا صلاح معه ، وإذا كان ، مع أن جماهير الناس مقرون بالقدر ، علم أن الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الاحتجاج به ، بل لا بد من الإيمان به ، ولا بد من رد الاحتجاج به . الاحتجاج بالقدر مردودا في فطر جميع الناس وعقولهم
ولما كان الجدل [45] ينقسم إلى حق وباطل ، والكلام ينقسم إلى حق وباطل [46] ، وكان من لغة العرب أن الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف من الآخر ، خصوا الأشرف باسمه الخاص [47] وعبروا عن الآخر [ ص: 85 ] بالاسم العام [48] ، كما في لفظ الجائز العام والخاص [49] ، والمباح العام والخاص ، وذوي الأرحام العام والخاص ولفظ الحيوان [50] العام والخاص ، فيطلقون [51] لفظ الحيوان على [52] غير الناطق لاختصاص الناطق باسم الإنسان .
وعملوا في لفظ الكلام والجدل كذلك ، فيقولون [53] : فلان صاحب كلام ومتكلم [54] إذا كان قد يتكلم [55] بلا علم ، ولهذا ذم السلف أهل الكلام . وكذلك الجدل إذا لم يكن [56] الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضا .
والاحتجاج بالقدر من هذا الباب ، كما في الصحيح عن رضي الله عنه ، قال : " علي [57] فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء يبعثنا بعثنا . قال فولى وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة فقال : " ألا تقومان تصليان ؟ " [58] [ سورة الكهف : 54 ] فإنه لما أمرهم بقيام الليل فاعتل [ ص: 86 ] [ رضي الله عنه ] علي [59] بالقدر ، وأنه لو شاء الله لأيقظنا [60] . [61] ، فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا .