الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ومن هذا الباب حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام ، قد أخرجاه في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وروي بإسناد جيد عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " احتج آدم وموسى " وفي لفظ أن موسى قال : " يا رب أرني [1] آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته ، فقال موسى : يا آدم [2] أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم [3] : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ، وكتب لك التوراة بيده ، فبكم تجد فيها مكتوبا : " وعصى آدم ربه فغوى " قبل أن [ ص: 79 ] أخلق ؟ قال : بأربعين سنة [4] قال : فحج آدم موسى ، فحج آدم موسى " . [5] .

                  فهذا الحديث ظن فيه [6] طوائف أن آدم احتج بالقدر على الذنب ، وأنه حج موسى بذلك ، فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث ، وطائفة يقولون : الاحتجاج بهذا سائغ [7] في الآخرة لا في الدنيا ، [ وطائفة يقولون : هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة ] [8] ، وطائفة كذبت هذا الحديث [9] كالجبائي وغيره ، وطائفة تأولته تأويلات فاسدة [10] مثل قول بعضهم : إنما حجه لأنه كان [ ص: 80 ] قد تاب [11] ، وقول آخر : كان أباه [12] والابن لا يلوم أباه ، وقول بعضهم : كان الذنب في شريعة [13] واللوم في أخرى .

                  وهكذا كله تعريج عن مقصود الحديث ، فإن الحديث إنما تضمن التسليم للقدر عند المصائب ، فإن موسى لم يلم آدم لحق الله الذي في الذنب ، وإنما [14] لامه لأجل ما لحق الذرية من المصيبة ; ولهذا قال أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة . وقال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ وهذا [15] روي في بعض طرق الحديث وإن لم يكن في جميعها .

                  وهو حق [16] ، فإن آدم كان قد تاب من الذنب ، وموسى أعلم بالله من [ ص: 81 ] أن يلوم تائبا ، وهو أيضا قد تاب حيث قال : رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي [ سورة القصص : 16 ] وقال : سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين [ سورة الأعراف : 143 ] ، وقال : فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك [ سورة الأعراف : 155 ، 156 ] ، وأيضا فإن المذنبين من الآدميين كثير ، فتخصيص [17] آدم باللون دون الناس لا وجه له .

                  وأيضا فآدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على الذنب بالقدر ويقبله الآخر ، فإن هذا لو كان مقبولا لكان لإبليس الحجة بذلك أيضا [18] ، ولقوم نوح وعاد وثمود وفرعون .

                  وإن كان من احتج على موسى بالقدر لركوب الذنب قد حجه ، ففرعون أيضا يحجه بذلك [19] . وإن كان آدم إنما حج موسى لأنه رفع اللوم [20] عن المذنب [21] لأجل القدر فيحتج بذلك [22] عليه إبليس من امتناعه من السجود لآدم ، وفي الحقيقة هذا إنما هو احتجاج على الله [23] ، وهؤلاء هم خصماء الله القدرية الذين يحشرون [24] يوم القيامة إلى النار حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .

                  [ ص: 82 ] والآثار المروية في ذم القدرية تتناول هؤلاء أعظم من تناولها المنكرين للقدر تعظيما للأمر وتنزيها عن الظلم ، ولهذا يقرنون [25] القدرية بالمرجئة لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد [26] ، وكذلك هؤلاء القدرية تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده ، ومن فعل هذا كان ملعونا في كل شريعة كما روي : لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا .

                  والخائضون في القدر بالباطل [27] ثلاثة أصناف : المكذبون به ، والدافعون للأمر والنهي [ به ] [28] ، والطاعنون على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر ، وهؤلاء شر الطوائف ويحكى [29] في ذلك مناظرة عن إبليس والدافعون به للأمر [30] بعدهم في الشر ، والمكذبون به بعد هؤلاء .

                  وأنت إذا رأيت تغليظ السلف على المكذبين بالقدر فإنما ذاك لأن الدافعين للأمر لم يكونوا يتظاهرون بذلك ، ولم يكونوا موجودين كثيرين ، وإلا فهم شر منهم ، كما أن الروافض شر من الخوارج في الاعتقاد ، ولكن الخوارج أجرأ على السيف والقتال منهم ، فلإظهار القول ومقاتلة المسلمين عليه [31] جاء فيهم ما لا يجيء فيمن هم [32] من جنس المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .

                  [ ص: 83 ] فتبين أن آدم احتج على موسى بالقدر من جهة المصيبة التي لحقته ولحقت الذرية ، والمصيبة تورث نوعا من الجزع يقتضي لوم من كان سببها ، فتبين له أن هذه المصيبة وسببها كان مقدورا مكتوبا ، والعبد مأمور أن يصبر على قدر الله ويسلم لأمر الله [33] فإن هذا من جملة ما أمره [34] الله به ، كما قال تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ سورة التغابن : 11 ] قالت [35] طائفة من السلف كابن مسعود : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم .

                  [ فهذا الكلام الذي قاله هذا المصنف وأمثال ] هذا الكلام يقال لمن احتج بالقدر [36] على المعاصي ، ثم يعلم أن هذه الحجة باطلة بصريح العقل عند كل أحد مع الإيمان بالقدر .

                  وبطلان هذه الحجة لا يقتضي التكذيب بالقدر ، وذلك أن بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب [37] المنفعة ودفع المضرة ، لا يعيشون ولا يصلح لهم دين ولا دنيا إلا بذلك ، فلا بد أن يأتمروا [38] وإنما فيه تحصيل [39] منافعهم ودفع مضارهم ، سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث ، لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم ، والرسل [40] صلوات الله عليهم [ ص: 84 ] بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك ، والمكذبون للرسل انعكس الأمر في حقهم ، فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح ، فهم شر الناس ، ولا بد لهم مع ذلك من أمور يجتلبونها ، وأمور يجتنبونها ، وأن يتدافعوا جميعا ما يضرهم [41] من الظلم والفواحش ونحو ذلك . فلو ظلم بعضهم بعضا في دمه وماله وعرضه وحرمته [42] فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة ، لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاجه بالقدر . ولو قال : اعذروني فإن هذا كان مقدرا علي . لقالوا له [43] : وأنت لو فعل بك هذا [44] فاحتج عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه .

                  وقبول هذه الحجة يوجب الفساد الذي لا صلاح معه ، وإذا كان الاحتجاج بالقدر مردودا في فطر جميع الناس وعقولهم ، مع أن جماهير الناس مقرون بالقدر ، علم أن الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الاحتجاج به ، بل لا بد من الإيمان به ، ولا بد من رد الاحتجاج به .

                  ولما كان الجدل [45] ينقسم إلى حق وباطل ، والكلام ينقسم إلى حق وباطل [46] ، وكان من لغة العرب أن الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف من الآخر ، خصوا الأشرف باسمه الخاص [47] وعبروا عن الآخر [ ص: 85 ] بالاسم العام [48] ، كما في لفظ الجائز العام والخاص [49] ، والمباح العام والخاص ، وذوي الأرحام العام والخاص ولفظ الحيوان [50] العام والخاص ، فيطلقون [51] لفظ الحيوان على [52] غير الناطق لاختصاص الناطق باسم الإنسان .

                  وعملوا في لفظ الكلام والجدل كذلك ، فيقولون [53] : فلان صاحب كلام ومتكلم [54] إذا كان قد يتكلم [55] بلا علم ، ولهذا ذم السلف أهل الكلام . وكذلك الجدل إذا لم يكن [56] الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضا .

                  والاحتجاج بالقدر من هذا الباب ، كما في الصحيح عن علي رضي الله عنه ، قال : " طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة فقال : " ألا تقومان تصليان ؟ " [57] فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء يبعثنا بعثنا . قال فولى وهو يقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [58] [ سورة الكهف : 54 ] فإنه لما أمرهم بقيام الليل فاعتل علي [ ص: 86 ] [ رضي الله عنه ] [59] بالقدر ، وأنه لو شاء الله لأيقظنا [60] . [61] ، فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية