الوجه السادس : أن يقال : قوله : لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز [1] لأجل التصديق ، يجيب عنه من يقول : إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بأنه [2] قد يفعل المتلازمين كما يفعل سائر الأدلة المستلزمة لمدلولاتها ، فيفعل [3] المخلوقات الدالة على وجوده وقدرته وعلمه ومشيئته [4] ، وهو قد أراد خلقها وأراد أن تكون مستلزمة لمدلولها دالة عليه لمن نظر فيها ، كذلك خلق المعجزة هنا فأراد خلقها [5] وأراد أن تكون [ ص: 96 ] مستلزمة لمدلولها الذي هو صدق الرسول ، دالة على ذلك لمن نظر فيها [6] ، وإذا أراد خلقها وأراد هذا التلازم حصل المقصود من دلالتها على الصدق ، وإن لم يجعل أحد المرادين [7] لأجل الآخر ، إذ المقصود يحصل بإرادتهما [8] جميعا .
فإن قيل : المعجز لا يدل بنفسه وإنما يدل للعلم [9] بأن فاعله أراد به التصديق .
قيل : هذا موضع النزاع . ونحن ليس مقصودنا نصر قول من يقول إنه يفعل لا لحكمة ، بل هذا القول مرجوح [10] عندنا ، وإنما المقصود [11] أن نبين حجة القائلين بالقول الآخر ، وأرباب هذا القول خير من المعتزلة والشيعة .
وأما قوله : " " ، هذه حجة ثانية إذا كان فاعلا للقبيح جاز أن يصدق الكذاب [12] ، وجواب ذلك أن يقال : ليس في المسلمين من يقول إن الله يفعل ما هو قبيح منه ، ومن قال إنه خالق أفعال العباد ، يقول : إن ذلك الفعل قبيح [13] منهم لا منه كما أنه ضار لهم [14] لا له .
ثم منهم من يقول : إنه فاعل ذلك الفعل ، والأكثرون يقولون : [ ص: 97 ] [ إن ] [15] ذلك الفعل مفعول له وهو فعل للعبد [16] ، وأما نفس خرق العادة فليست فعلا للعباد [17] حتى يقال : إنها قبيحة منهم ، فلو قدر [18] فعل ذلك لكان [19] قبيحا منه لا من العبد ، . والرب منزه عن فعل القبيح
فمن قال : إذا خلق الله ما هو ضار للعباد جاز أن يفعل ما هو ضار [20] كان قوله باطلا . كذلك إذا جاز أن يخلق فعل العبد [ الذي ] [21] هو قبيح من العبد وليس [22] خلقه قبيحا منه ، لم يستلزم أن يخلق ما هو قبيح منه لا فعل للعبد فيه .
وتصديق الكذاب إنما يكون بإخبار [23] أنه صادق ، سواء كان ذلك بقول أو فعل [24] يجري مجرى القول ، وذلك ممتنع منه لأنه صفة نقص ، والله سبحانه منزه عن النقائص بالعقل [25] وباتفاق العقلاء .
ومن قال : إنه لا يتصور منه فعل قبيح ، بل كل ما يمكن فعله فهو حسن إذا فعله ، يقول : إن ما يستلزم سلب صفات الكمال وإثبات النقص له ، فهو ممتنع عليه : كالعجز والجهل ونحو ذلك ، والكذب صفة نقص [ ص: 98 ] بالضرورة ، والصدق صفة كمال ، وتصديق [26] الكذاب [27] نوع من الكذب ، [ كما أن تكذيب الصادق نوع من الكذب ] [28] ، وإذا كان الكذب صفة نقص امتنع من الله ما هو نقص .
وهذا المقام [29] له بسط مذكور في غير هذا الموضع [30] ، [ ونحن لا نقصد تصويب قول كل [31] من انتسب إلى السنة بل نبين الحق ، والحق أن ، ولم تنفرد أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ الشيعة عنهم قط [32] بصواب ، بل الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون ، كما أن ما خالفت فيه كل ما خالفت فيه اليهود والنصارى لجميع المسلمين فهم فيه ضالون ، وإن كان كثير من المسلمين قد يخطئ . ومن وافق [33] من المثبتين للقدر على أن الله لا يفعل شيئا لحكمة ولا لسبب ، وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ، ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها ، فقوله فاسد جهم بن صفوان [34] مخالف للكتاب والسنة واتفاق السلف . وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه ، لا سيما إذا قال من قال منهم : إن تنزيهه عن النقص لا يعلم [35] بالعقل بل بالسمع .
[ ص: 99 ] فإذا قيل لهم : لم قلتم إن الكذب ممتنع عليه ؟ .
قالوا : لأنه نقص ، والنقص عليه محال .
فيقال لهم : إن تنزيهه عندكم عن النقص [36] لم يعلم إلا بالإجماع ، ومعلوم أن فإن صح الاحتجاج على هذا بالإجماع فلا حاجة إلى هذا التطويل . الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب ،
وأيضا فالكلام إنما هو في العبارة الدالة على المعنى ، وهذا كما قاله بعضهم : إن الله لا يجوز [37] أن يتكلم بكلام ولا يعني به شيئا .
وقال : خلافا للحشوية .
ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من المسلمين ، وإنما النزاع : هل [38] يجوز أن ينزل كلاما لا يعلم العباد معناه ، لا أنه هو في نفسه لا يعني به شيئا . ثم بتقدير أن يكون في هذا نزاع ، فإنه احتج على ذلك بأن هذا عبث ، والعبث [39] على الله تعالى ممتنع ، وهذا المحتج يجوز على الله فعل كل شيء ، لا ينزهه عن فعل ، فهذا [40] وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهمية الجبرية في القدر كثير ، لكن ليس هذا قول أئمة السنة ولا جمهورهم ] [41] ، [ والله أعلم ] [42] .