وحينئذ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن يقال : وقدرته ، وهو المتصف بها المتحرك بها ، الذي يعود حكمها عليه الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد ، بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته [1] ، فإنه قد يقال لما اتصف به المحل وخرج منه [2] : هذا منه وإن لم يكن له اختيار ، كما يقال : هذه الريح [3] من هذا الموضع ، وهذه الثمرة من هذه الشجرة ، وهذا الزرع من [ ص: 146 ] هذه الأرض ، فلأن يقال ما صدر من الحي [4] باختياره : هذا منه بطريق الأولى ، وهي من الله ، بمعنى أنه خلقها قائمة بغيره وجعلها عملا له وكسبا وصفة [5] ، وهو خلقها بمشيئة نفسه وقدرة نفسه بواسطة خلقه لمشيئة العبد وقدرته [6] ، كما يخلق المسببات بأسبابها ، فيخلق السحاب بالريح ، [ والمطر بالسحاب ] [7] ، والنبات بالمطر .
والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار ، وإلى أسبابها باعتبار ، فهي من الله مخلوقة له في غيره ، كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه ، وهي من العبد صفة قائمة به ، كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جمادا ، فكيف إذا كان حيوانا [8] ؟
وحينئذ فلا شركة بين الرب وبين العبد [9] لاختلاف جهة الإضافة ، كما [ أنا ] [10] إذا قلنا : هذا الولد من هذه [11] المرأة بمعنى أنها ولدته ، ومن الله بمعنى أنه خلقه [12] لم يكن بينهما تناقض . وإذا قلنا هذه الثمرة من [13] الشجرة ، وهذا الزرع من الأرض ، بمعنى أنه حدث فيها ، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها [14] ، لم يكن بينهما تناقض .
[ ص: 147 ] وقد قال تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ سورة الطور : 35 ] فالمشهور : أم خلقوا من غير رب ؟ وقيل أم خلقوا من غير عنصر ؟
وكذلك قال موسى [15] . لما قتل القبطي : هذا من عمل الشيطان [ سورة القصص : 15 ] .
وقال تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ سورة النساء : 79 ] مع قوله فيما تقدم : قل كل من عند الله [ سورة النساء : 78 ] . فالحسنات والسيئات المراد بها هنا [16] النعم والمصائب ; ولهذا قال : ما أصابك ، ولم يقل : ما أصبت .
كما في قوله : إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها [ سورة آل عمران : 120 ] ، وقوله : إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون [ سورة التوبة : 50 ] فبين أن ، وهي معاصيه النعم والمصائب من عند الله ، فالنعمة من الله ابتداء والمصيبة بسبب من نفس الإنسان [17] .
كما قال في الآية الأخرى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ سورة الشورى : 30 ] ، وقال في الآية ] [18] الأخرى : [19] [ ص: 148 ] أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ سورة آل عمران : 165 ] ، وهذا لأن . الله محسن عدل ، كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ، فهو محسن إلى العبد بلا سبب منه تفضلا وإحسانا ، ولا يعاقبه إلا بذنبه ، وإن كان قد خلق الأفعال كلها لحكمة له في ذلك ، فإنه حكيم عادل يضع الأشياء مواضعها ، ولا يظلم ربك أحدا
وإذا كان غير الله يعاقب عبده [20] على ظلمه وإن كان [21] مقرا بأن الله خالق أفعال العباد ، وليس ذلك ظلما منه ، فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه ، وإذا كان الإنسان قد [22] يفعل مصلحة اقتضتها حكمته ، لا تحصل إلا بتعذيب حيوان ، ولا يكون ذلك ظلما منه [23] ، فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه .