ويقال : ثانيا : الجواب عن هذا التقسيم أن يقال : هذا التقسيم ليس بمنحصر [1] . وذلك أن قول القائل : " المعصية ممن ؟ " لفظ [ ص: 142 ] مجمل ، فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغيره [2] ، فلا بد له من محل يقوم به ، وهي قائمة بالعبد لا محالة ، وليست قائمة بالله [ تبارك وتعالى ] [3] بلا ريب .
، كما في قوله [ تعالى ] ومعلوم أن كل مخلوق يقال : هو من الله ، بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به [4] : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ سورة الجاثية : 13 ] [5] ، وقوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [ سورة النحل : 53 ] .
والله تعالى وإن كان خالقا لكل شيء فإنه التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا ، كما قال : خلق الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين [ سورة السجدة : 7 ] وقال : صنع الله الذي أتقن كل شيء [ سورة النمل : 88 ] فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا ، بل إما أن يدخل في العموم ، وإما أن يضاف إلى السبب ، وإما أن يحذف فاعله .
فالأول : كقول [ الله تعالى ] [6] الله خالق كل شيء [ سورة الزمر : 62 ] والثاني : كقوله : قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق [ سورة الفلق : 1 ، 2 ] والثالث كقوله فيما حكاه عن الجن : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا [ سورة الجن : 10 ] و [ قد ] [ ص: 143 ] قال ن ، م : قال . في أم القرآن : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ سورة الفاتحة : 6 ، 7 ] فذكر أنه فاعل النعمة ، وحذف فاعل الغضب ، وأضاف الضلال إليهم . وقال الخليل [ عليه السلام ] [7] وإذا مرضت فهو يشفين [ سورة الشعراء : 80 ] ، ولهذا كان لله الأسماء الحسنى ، فسمى [8] نفسه بالأسماء الحسنى المقتضية للخير .
وإنما ، كقوله : يذكر الشر في المفعولات اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم [ سورة المائدة : 98 ] [9] ، وقوله في آخر سورة [10] الأنعام : إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم [ سورة الأنعام : 165 ] ( * وقوله في الأعراف : [11] إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم [ سورة الأعراف : 167 ] . * ) [12] وقوله : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ سورة الحجر : 49 ، 50 ] وقوله : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو [ سورة غافر : 13 ] .
وهذا لأن ما يخلقه من الأمور التي فيها شر [13] بالنسبة إلى بعض الناس [ ص: 144 ] فله فيها [14] حكمة ، هو بخلقه لها [15] حميد مجيد ، له الملك وله الحمد ، فليست بالإضافة إليه شرا ولا مذمومة ، فلا يضاف إليه ما يشعر بنقيض ذلك ، كما أنه سبحانه خالق [16] الأمراض والأوجاع والروائح الكريهة والصور المستقبحة والأجسام الخبيثة كالحيات والعذرات [17] لما له في ذلك من الحكمة البالغة .
فإذا قيل : هذه العذرة وهذه الروائح الخبيثة من الله ، أوهم ذلك أنها خرجت منه ، والله منزه عن ذلك . وكذلك إذا قيل : القبائح من الله [ أو المعاصي من الله ] [18] ، قد يوهم ذلك أنها خارجة من ذاته ، كما تخرج من ذات العبد ، وكما يخرج الكلام من المتكلم ، والله منزه عن ذلك ، أو يوهم [ ذلك ] أنها [19] منه قبيحة وسيئة ، والله منزه عن ذلك .
بل جميع خلقه خلقه له حسن على قولي [20] التفويض والتعليل . وكذلك إذا قيل للطعوم والألوان والروائح ونحوها من الأعراض : هذا الطعم الحلو والمر من الله أو من هذا النبات ، وهذه الروائح الطيبة أو الخبيثة من الله أو من هذه العين [21] ، وأمثال ذلك . وقد يوهم إذا قيل : [ ص: 145 ] إنها من الله أنه أمر بها ، والله لا يأمر بالفحشاء ، ولا يحب الفساد [22] ، ولا يرضى لعباده الكفر .
وهذا مثل قول [23] لما سئل عن المفوضة : أقول ابن مسعود [24] فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه . وكذلك قال أبو بكر [25] في الكلالة ، وقال نحو ذلك . ومرادهم أن الصواب قد أمر الله به وشرعه وأحبه عمر [26] ورضيه ، والخطأ لم يأمر به ولم يحبه ولم يشرعه ، بل هو مما زينه الشيطان لنفسي ففعلته بأمر الشيطان ، فهو مني ومن الشيطان .