الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وحينئذ فالجواب من وجوه :

                  أحدها : أن يقال : الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد ، بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته ، وهو المتصف بها المتحرك بها ، الذي يعود حكمها عليه [1] ، فإنه قد يقال لما اتصف به المحل وخرج منه [2] : هذا منه وإن لم يكن له اختيار ، كما يقال : هذه الريح [3] من هذا الموضع ، وهذه الثمرة من هذه الشجرة ، وهذا الزرع من [ ص: 146 ] هذه الأرض ، فلأن يقال ما صدر من الحي [4] باختياره : هذا منه بطريق الأولى ، وهي من الله ، بمعنى أنه خلقها قائمة بغيره وجعلها عملا له وكسبا وصفة [5] ، وهو خلقها بمشيئة نفسه وقدرة نفسه بواسطة خلقه لمشيئة العبد وقدرته [6] ، كما يخلق المسببات بأسبابها ، فيخلق السحاب بالريح ، [ والمطر بالسحاب ] [7] ، والنبات بالمطر .

                  والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار ، وإلى أسبابها باعتبار ، فهي من الله مخلوقة له في غيره ، كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه ، وهي من العبد صفة قائمة به ، كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جمادا ، فكيف إذا كان حيوانا [8] ؟

                  وحينئذ فلا شركة بين الرب وبين العبد [9] لاختلاف جهة الإضافة ، كما [ أنا ] [10] إذا قلنا : هذا الولد من هذه [11] المرأة بمعنى أنها ولدته ، ومن الله بمعنى أنه خلقه [12] لم يكن بينهما تناقض . وإذا قلنا هذه الثمرة من [13] الشجرة ، وهذا الزرع من الأرض ، بمعنى أنه حدث فيها ، ومن الله بمعنى أنه خلقه منها [14] ، لم يكن بينهما تناقض .

                  [ ص: 147 ] وقد قال تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ سورة الطور : 35 ] فالمشهور : أم خلقوا من غير رب ؟ وقيل أم خلقوا من غير عنصر ؟

                  وكذلك قال موسى [15] . لما قتل القبطي : هذا من عمل الشيطان [ سورة القصص : 15 ] .

                  وقال تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ سورة النساء : 79 ] مع قوله فيما تقدم : قل كل من عند الله [ سورة النساء : 78 ] . فالحسنات والسيئات المراد بها هنا [16] النعم والمصائب ; ولهذا قال : ما أصابك ، ولم يقل : ما أصبت .

                  كما في قوله : إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها [ سورة آل عمران : 120 ] ، وقوله : إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون [ سورة التوبة : 50 ] فبين أن النعم والمصائب من عند الله ، فالنعمة من الله ابتداء والمصيبة بسبب من نفس الإنسان ، وهي معاصيه [17] .

                  كما قال في الآية الأخرى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ سورة الشورى : 30 ] ، وقال في الآية ] [18] الأخرى : [19] [ ص: 148 ] أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ سورة آل عمران : 165 ] ، وهذا لأن الله محسن عدل ، كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل ، فهو محسن إلى العبد بلا سبب منه تفضلا وإحسانا ، ولا يعاقبه إلا بذنبه ، وإن كان قد خلق الأفعال كلها لحكمة له في ذلك ، فإنه حكيم عادل يضع الأشياء مواضعها ، ولا يظلم ربك أحدا .

                  وإذا كان غير الله يعاقب عبده [20] على ظلمه وإن كان [21] مقرا بأن الله خالق أفعال العباد ، وليس ذلك ظلما منه ، فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه ، وإذا كان الإنسان قد [22] يفعل مصلحة اقتضتها حكمته ، لا تحصل إلا بتعذيب حيوان ، ولا يكون ذلك ظلما منه [23] ، فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية