الوجه الثالث : أن يقال : قد تقدم أن ، وأن ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة الله سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله لما له في ذلك من الحكمة [1] والإنسان قد يفعل ما يكرهه ، كشربه [2] الدواء الكريه لما [ له ] [3] فيه من الحكمة التي يحبها كالصحة والعافية ، فشرب الدواء مكروه من وجه محبوب من وجه ، فالعبد يوافق ربه فيكره [4] [ ص: 208 ] الذنوب ويمقتها ويبغضها ; لأن الله يبغضها ويمقتها ، ويرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها ، فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة ، ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية ; لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة . والعبد فعلها وهي ضارة له موجبة له العذاب ، فنحن ننكرها ونكرهها وننهى عنها كما أمرنا [5] الله بذلك ، إذ كان هو أيضا [ سبحانه ] [6] ، يسخطها ويبغضها ، ونعلم أن الله أحدثها لما له في ذلك من الحكمة ، فنرضى [7] بقضائه وقدره . فمتى لحظنا أن الله قضاها وقدرها رضينا عن الله وسلمنا لحكمه [8] . وأما من جهة كون العبد يفعلها ، فلا بد أن نكره ذلك وننهى عنه ونجتهد [9] في دفعه [10] بحسب إمكاننا ، فإن هذا هو الذي يحبه الله منا .
والله تعالى إذا أرسل الكافرين على المسلمين [11] ، فعلينا أن نرضى بقضاء الله في إرسالهم ، وعلينا أن نجتهد في دفعهم وقتالهم . وأحد الأمرين لا ينافي الآخر وهو سبحانه خلق الفأرة والحية والكلب العقور ، وأمرنا بقتل ذلك ، فنحن نرضى عن الله إذ خلق ذلك ، ونعلم أن له في ذلك حكمة ، ونقتلهم [12] كما أمرنا ، فإن الله يحب ذلك ويرضاه .
[ ص: 209 ] وقد أجاب بعضهم بجواب آخر : وهو أنا نرضى بالقضاء لا بالمقضي . وقد أجاب بعضهم [ بجواب آخر ] : أنا نرضى بها من جهة كونها [13] خلقا ، ونسخطها من جهة [14] كونها كسبا .
وهذا يرجع إلى الجواب الثالث ، لكن إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلا - فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع [15] .
فالذين جعلوا العبد كاسبا غير فاعل من أتباع ] الجهم [ بن صفوان [16] وحسين النجار ، وغيرهم وأبي الحسن [ الأشعري ] [17] ، كلامهم متناقض ; ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذا الكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاما معقولا ، بل تارة يقولون : هو [18] المقدور بالقدرة الحادثة ، وتارة يقولون : ما قام بمحل القدرة أو بمحل القدرة [19] الحادثة .
وإذا قيل لهم : ما القدرة الحادثة ؟
قالوا : ما قامت بمحل الكسب ، ونحو ذلك [20] من العبارات التي [ ص: 210 ] تستلزم الدور . ثم يقولون : معلوم [21] بالاضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش . وهذا كلام صحيح ، لكنه حجة عليهم لا لهم ، فإن هذا الفرق يمتنع أن يعود إلى كون أحدهما مرادا دون الآخر ، إذ يمكن الإنسان أن يريد فعل غيره ، فرجع الفرق إلى أن للعبد على أحدهما قدرة يحصل بها الفعل دون الآخر ، والفعل هو الكسب ، لا يعقل شيئان في المحل ، أحدهما فعل ، والآخر كسب .