[ ص: 236 ] الوجه الثاني أن يقال : بل النفاة خالفوا العلم الضروري [1] فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا [2] أمر حادث بعد أن لم يكن ، فإما أن يكون له محدث [3] وإما أن لا يكون له محدث ، فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث ، وإن كان له محدث فإما أن يكون هو العبد أو الرب تعالى أو غيرهما .
فإن كان هو [4] العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث أحداثها ، ويلزم التسلسل ، وهو هنا باطل بالاتفاق ، لأن العبد كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها .
وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق لكون العبد مريدا فاعلا وهو المطلوب .
وأهل السنة يقولون بهذا العلم الضروري فيقولون [5] : إن العبد فاعل والله خلقه فاعلا [6] والعبد مريد مختار والله جعله مريدا مختارا .
قال الله تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ سورة الإنسان 29 ، 30 ] وقال تعالى : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ سورة التكوير 28 ، 29 ] .
[ ص: 237 ] فأثبت مشيئة العبد ، وجعلها لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى ، وقال الخليل صلى الله عليه وسلم : [7] رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ سورة إبراهيم : 40 ] .
وقال : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم [ سورة إبراهيم : 37 ] .
وقال هو وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم [8] : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [ سورة البقرة 128 ] .
وقال : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا [ سورة الأنبياء : 73 ] .
وقال : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ سورة القصص 41 ] ، وأمثال ذلك في الكتاب والسنة .
فدليلهم [9] اقتضى مشيئة العبد وأنه فاعل بالاختيار [10] وهذا الدليل اقتضى أن هذه المشيئة والاختيار حصلت بمشيئة الرب فكلا [11] الأمرين حق .
فمن قال : إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار ، أو قال : إنه لا قدرة [ له ] [12] أو أنه لم يفعل ذلك الفعل أو لا [13] أثر لقدرته فيه ولم يحدث تصرفاته [14] فقد أنكر موجب الضرورة الأولى .
[ ص: 238 ] ومن قال : إن إرادته وفعله حدثت بغير سبب اقتضى حدوث ذلك وأن العبد أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبل إحداثه ، بل خص أحد الزمانين بالإحداث من غير [15] سبب اقتضى تخصيصه ، وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك [16] ، من غير شيء جعله كذلك ، فقد قال بحدوث الحوادث بلا فاعل .
وإذا قالوا : الإرادة لا تعلل كان [ هذا ] [17] كلاما لا حقيقة له ، فإن الإرادة أمر حادث فلا بد له من محدث ، وهذا كما قالوا : إن البارئ يحدث إرادة لا في محل بلا سبب اقتضى حدوثها ولا إرادة فارتكبوا [18] ثلاث محالات : حدوث حادث [19] بلا إرادة من الله ، وحدوث حادث بلا سبب حادث ، وقيام الصفة بنفسها لا في محل .
وإن شئت قلت : كونه مريدا أمر ممكن ، والممكن [20] لا يترجح [ وجوده على عدمه ولا يترجح ] [21] أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام .
وهذا مما يحتج به الرازي عليهم وهو صحيح في نفسه لكنه تناقض في مسألة حدوث العالم [22] .
[ ص: 239 ] والحجة التي ذكرها هذا الإمامي مذكورة عن أبي الحسين البصري [23] وهي صحيحة كما أن الأخرى صحيحة فيجب القول [24] بهما جميعا ، [ مع أن جمهور [25] القدرية يقولون : العلم بكون العبد محدثا لأفعاله نظري لا ضروري ، وهؤلاء يخالفون أبا الحسين .
وأبو الحسين يقول مع ذلك : إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة وعندهما يجب الفعل ، وهو حقيقة قول أهل الإثبات ، ولهذا يعبر غير واحد منهم بنحو ذلك كأبي المعالي والرازي وغيرهما .
لكن إذا قيل مع ذلك : إن أمكن الجمع بينهما عند من يقول إن الله خلق الأشياء بالأسباب . الله خالق أفعال العباد
ومن لم يقل ذلك يقول : خلق الفعل عند هذه الأمور لا بها ، وهو قول من لم يجعل للقدرة أثرا في مقدورها كالأشعري وغيره ] [26] .
فإن قيل : كيف يكون الله محدثا لها والعبد محدثا لها .
قيل : إحداث الله لها بمعنى أن خلقها [ منفصلة عنه قائمة بالعبد ] [27] فجعل العبد فاعلا لها بقدرته ومشيئته [28] التي خلقها الله [ تعالى ] ، [ ص: 240 ] وإحداث العبد لها [29] بمعنى أنه حدث منه هذا الفعل [ القائم به ] [30] بالقدرة والمشيئة التي خلقها الله فيه .
وكل من الإحداثين مستلزم للآخر وجهة الإضافة مختلفة [ فما أحدثه الرب فهو مباين له قائم بالمخلوق وفعل العبد الذي أحدثه قائم به ] [31] فلا يكون العبد فاعلا للفعل بمشيئته وقدرته حتى يجعله الله كذلك فيحدث [32] قدرته ومشيئته والفعل الذي كان بذلك وإذا جعله الله فاعلا وجب [33] وجود ذلك .
فخلق الرب لفعل العبد يستلزم وجود الفعل ، وكون العبد فاعلا له بعد أن لم يكن يستلزم كون الرب خالقا له ، بل جميع الحوادث بأسبابها هي من هذا الباب [34] .
[ فإن قيل : هذا قول من يقول هي فعل للرب وفعل للعبد .
قيل : من قال هي فعل لهما بمعنى الشركة فقد أخطأ ، ومن قال : إن فعل الرب هو ما انفصل عنه ، وقال : إنها فعل لهما كما قاله ، فلا بد أن يفسر كلامه بشيء يعقل . أبو إسحاق الإسفراييني
وأما على قول جمهور أهل السنة الذين يقولون : إنها مفعولة للرب [ ص: 241 ] لا فعل له إذا فعله ما قام به والفعل عندهم غير المفعول ، فيقولون إنها مفعولة للرب لا فعل له [35] وإنها فعل للعبد .
كما يقولون في قدرة العبد : إنها قدرة للعبد مقدورة للرب لا إنها نفس قدرة الرب .
وكذلك إرادة العبد هي إرادة للعبد مرادة للرب .
وكذلك سائر صفات العبد هي صفات له وهي [36] مفعولة للرب مخلوقة له ليست بصفات له .
ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد أضاف كثيرا من الحوادث إليه وأضافه إلى بعض مخلوقاته ، إما أن يضيف عينه أو نظيره .
كقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى [ سورة الزمر 42 ] ] .
وقال تعالى : هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ سورة الأنعام 60 ] .
مع قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [ سورة السجدة 11 ] .
وقوله : توفته رسلنا وهم لا يفرطون [ سورة الأنعام 61 ] .
وكذلك قوله تعالى في الريح : تدمر كل شيء بأمر ربها [ سورة الأحقاف : 25 ] .
[ ص: 242 ] وقال : ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [ سورة الأعراف 137 ] .
وقال تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ سورة الإسراء 9 ] .
وقال : يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [ سورة المائدة 16 ] .
وقال : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن [ سورة يوسف 3 ] .
وقال : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ سورة النمل 76 ] .
وقال : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب [ سورة النساء 127 ] .
أي : ما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم فيهن .
وقال : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ سورة الحج : 5 ] ، فأضاف الإنبات [37] إليها .
وقال تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج [ سورة الحجر 19 ] .
وقال تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات [ سورة النحل 10 ، 11 ] .
وقال تعالى : حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ سورة يونس 24 ] .
[ ص: 243 ] وقال تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ سورة الكهف 7 ] .
وقال تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ سورة الصافات 6 ] .
وقال تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها [ سورة الحديد : 4 ] .
وقال تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء [ سورة النحل : 2 ] .
وقال : نزل به الروح الأمين [ سورة الشعراء : 193 ] .
وقال : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [ سورة الإسراء : 105 ] .
وقال : وأنزلنا من السماء ماء [ سورة المؤمنون : 18 ] .
وقال تعالى : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ سورة فصلت : 21 ] ، وقال سليمان عليه الصلاة والسلام : ياأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء [ سورة النمل : 16 ] .
وقال تعالى : فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ سورة الذاريات : 23 ] ، فهم نطقوا وهو أنطقهم ، وهو الذي أنطق كل شيء .
فإذا كان [ تبارك وتعالى ] [38] قد جعل في الجمادات قوى تفعل ، وقد أضاف الفعل إليها ولم يمنع ذلك أن يكون خالقا لأفعالها ، فلأن لا [ ص: 244 ] يمنع إضافة الفعل إلى الحيوان وإن كان الله خالقه - بطريق الأولى .
فإن القدرية لا تنازع في أن الله خالق ما في الجمادات من القوى والحركات وقد أخبر الله [39] أن الأرض تنبت ، وأن السحاب يحمل الماء كما قال تعالى : فالحاملات وقرا [ سورة الذاريات : 2 ] .
والريح تنقل السحاب كما قال تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت [ سورة الأعراف : 57 ] ، وأخبر أن الريح تدمر كل شيء ، وأخبر أن الماء طغى بقوله تعالى : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ سورة الحاقة : 11 ] .
بل قد أخبر بما هو أبلغ من ذلك من سجود هذه الأشياء وتسبيحها كما في قوله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب [ سورة الحج : 18 ] .
وهذا التفصيل يمنع حمل ذلك على أن المراد كونها مخلوقة دالة على الخالق وأن المراد شهادتها بلسان الحال فإن هذا عام لجميع الناس .
وقد قال تعالى : ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد [ سورة سبأ : 10 ] .
وقال : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب [ سورة ص : 18 ، 19 ] .
[ ص: 245 ] فأخبر أن الجبال تئوب معه والطير ، وأخبر أنه سخرها تسبح .
وقال : ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه [ سورة النور : 41 ] .
وقال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ سورة الإسراء : 44 ] .
وقال : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها [ سورة الرعد : 15 ] .
وقال : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله [ سورة البقرة : 74 ] .
وبسط الكلام على سجود هذه الأشياء وتسبيحها مذكور في غير هذا الموضع [40] .
والمقصود هنا أن هذا كله مخلوق لله بالاتفاق مع جعل ذلك فعلا لهذه الأعيان في القرآن ، فعلم أن ذلك لا ينافي كون الرب تعالى خالقا لكل شيء .