الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه الرابع : أن يقال : الخطاب لمعدوم لم يوجد بعد بشرط وجوده أقرب إلى العقل من متكلم لا يقوم به كلامه ، ومن كون الرب مسلوب صفات الكمال لا يتكلم ، ومن أن [1] يخلق كلاما في غيره فيكون ذلك ليس كلاما لمن خلقه فيه [2] بل لخالقه ، وهو إذا خلق في غيره حركة كانت الحركة حركة للمحل المخلوقة فيه [3] لا للخالق لها ، وكذلك سائر [ ص: 367 ] الأعراض ، فما خلق الله من عرض في جسم [4] إلا كان صفة لذلك الجسم لا لله تعالى .

                  وأما خطاب من لم يوجد [5] بشرط وجوده ، فإن الموصي قد يوصي بأشياء ويقول : أنا آمر الوصي بعد موتي أن يعمل كذا ويعمل كذا ، فإذا بلغ ولدي فلان [6] يكون هو الوصي وأنا آمره بكذا وكذا ، بل يقف وقفا يبقى سنين ، ويأمر الناظر الذي يخلفه بعد بأشياء [7] .

                  وأما القائل : يا " سالم " ويا " غانم " فإن قصد به خطاب حاضر ليس بموجود ، فهذا قبيح بالاتفاق [8] ، وأما إن [9] قصد به خطاب من سيكون ، مثل أن يقول : قد أخبرني الصادق أن أمتي تلد غلاما ويسمى غانما ، فإذا ولدته فهو حر ، وقد جعلته وصيا على أولادي وأنا آمرك يا غانم بكذا وكذا [10] لم يكن هذا ممتنعا .

                  وذلك لأن [11] الخطاب هنا هو لحاضر في العلم ، وإن كان مفقودا في العين ، والإنسان يخاطب من يستحضره في نفسه ، ويتذكر [12] أشخاصا قد أمرهم بأشياء ، فيقول : يا فلان أما قلت لك كذا .

                  [ ص: 368 ] والشيعة والسنية يروون عن علي - رضي الله عنه - أنه لما مر بكربلاء قال : صبرا أبا عبد الله ، صبرا أبا عبد الله ، يخاطب الحسين لعلمه بأنه سيقتل ، وهذا قبل أن يحضر الحسين بكربلاء ويطلب قتله .

                  والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال وخروجه وأنه قال : " يا عباد الله اثبتوا " [13] وبعد لم يوجد عباد الله أولئك .

                  والمسلمون يقولون في صلاتهم : " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وليس هو حاضرا عندهم ولكنه حاضر في قلوبهم .

                  وقد قال تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ سورة يس : 82 ] وهذا عند أكثر العلماء هو خطاب يكون [14] لمن يعلمه الرب تعالى في نفسه ، وإن لم يوجد بعد . ومن قال : إنه عبارة عن شرعة التكوين فقد خالف مفهوم الخطاب ، وحمل الآية على ذلك يستدعي استعمال الخطاب في مثل هذا المعنى ، وأن هذا من اللغة التي نزل بها القرآن ، وإلا فليس لأحد أن يحمل خطاب الله ورسوله على ما يخطر له .

                  [ ص: 369 ] بل القرآن نزل بلغة العرب ، بل بلغة قريش ، وقد علمت العادة المعروفة في خطاب الله ورسوله ، فليس لأحد أن يخرج عنها .

                  وبالجملة فنحن ليس مقصودنا هنا نصر قول من يقول : القرآن قديم ، فإن هذا القول أول من عرف أنه قاله في الإسلام أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ، واتبعه على ذلك طوائف ، فصاروا حزبين : حزبا يقول : القديم هو معنى قائم بالذات ، وحزبا يقول : هو حروف ، أو حروف وأصوات .

                  وقد صار إلى كل من القولين طوائف من المنتسبين إلى السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم . وليس هذا القول ولا هذا القول قول أحد من الأئمة الأربعة ، بل الأئمة الأربعة وسائر الأئمة متفقون على أن كلام الله منزل غير مخلوق . وقد صرح غير واحد منهم أن الله تعالى متكلم [15] ( * بمشيئته وقدرته ، وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء ، وغير ذلك من الأقوال المنقولة عنهم ، وهذه المسألة قد تكلم فيها السلف * ) [16] ، لكن اشتهر النزاع فيها في المحنة المشهورة لما امتحن أئمة الإسلام ، وكان الذي ثبته الله في المحنة وأقامه لنصر السنة هو الإمام أحمد ( 2 بن حنبل - رحمه الله تعالى 2 ) [17] - وكلامه وكلام غيره في ذلك [18] موجود في كتب كثيرة ، وإن كان طائفة من متأخري [ ص: 370 ] أصحابه [19] وافقوا ابن كلاب على قوله : إن القرآن قديم ، فأئمة [20] أصحابه على نفي ذلك ، وأن كلامه قديم ، بمعنى أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته .

                  ولهم قولان : هل يوصف الله بالسكوت عن كل كلام ، [ أو أنه لم يزل متكلما وإنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء ؟ ] [21] ذكرهما أبو بكر عبد العزيز وأبو عبد الله بن حامد وغيرهما . وأكثر أئمتهم وجمهورهم على أنه لم يزل متكلما ، إنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء .

                  كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الحلال ما أحله الله في كتابه ، والحرام ما حرمه الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " . [22] .

                  وأحمد وغيره من السلف يقولون : إن الله تعالى يتكلم بصوت ، لكن لم يقل أحد منهم : إن ذلك الصوت المعين قديم .

                  [ ص: 371 ] يقولون : إن الله تعالى يتكلم بصوت ، لكن لم يقل أحد منهم : إن ذلك الصوت المعين قديم

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية