الوجه الرابع : أن يقال : الخطاب لمعدوم لم يوجد بعد بشرط وجوده أقرب إلى العقل من متكلم لا يقوم به كلامه ، ومن كون الرب مسلوب صفات الكمال لا يتكلم ، ومن أن [1] يخلق كلاما في غيره فيكون ذلك ليس كلاما لمن خلقه فيه [2] بل لخالقه ، وهو إذا خلق في غيره حركة كانت الحركة حركة للمحل المخلوقة فيه [3] لا للخالق لها ، وكذلك سائر [ ص: 367 ] الأعراض ، فما خلق الله من عرض في جسم [4] إلا كان صفة لذلك الجسم لا لله تعالى .
وأما خطاب من لم يوجد [5] بشرط وجوده ، فإن الموصي قد يوصي بأشياء ويقول : أنا آمر الوصي بعد موتي أن يعمل كذا ويعمل كذا ، فإذا بلغ ولدي فلان [6] يكون هو الوصي وأنا آمره بكذا وكذا ، بل يقف وقفا يبقى سنين ، ويأمر الناظر الذي يخلفه بعد بأشياء [7] .
وأما القائل : يا " سالم " ويا " غانم " فإن قصد به خطاب حاضر ليس بموجود ، فهذا قبيح بالاتفاق [8] ، وأما إن [9] قصد به خطاب من سيكون ، مثل أن يقول : قد أخبرني الصادق أن أمتي تلد غلاما ويسمى غانما ، فإذا ولدته فهو حر ، وقد جعلته وصيا على أولادي وأنا آمرك يا غانم بكذا وكذا [10] لم يكن هذا ممتنعا .
وذلك لأن [11] الخطاب هنا هو لحاضر في العلم ، وإن كان مفقودا في العين ، والإنسان يخاطب من يستحضره في نفسه ، ويتذكر [12] أشخاصا قد أمرهم بأشياء ، فيقول : يا فلان أما قلت لك كذا .
[ ص: 368 ] والشيعة والسنية يروون عن - رضي الله عنه - أنه لما مر علي بكربلاء قال : صبرا أبا عبد الله ، صبرا أبا عبد الله ، يخاطب لعلمه بأنه سيقتل ، وهذا قبل أن يحضر الحسين الحسين بكربلاء ويطلب قتله .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال وخروجه وأنه قال : " " يا عباد الله اثبتوا [13] وبعد لم يوجد عباد الله أولئك .
والمسلمون يقولون في صلاتهم : " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " وليس هو حاضرا عندهم ولكنه حاضر في قلوبهم .
وقد قال تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ سورة يس : 82 ] وهذا عند أكثر العلماء هو خطاب يكون [14] لمن يعلمه الرب تعالى في نفسه ، وإن لم يوجد بعد . ومن قال : إنه عبارة عن شرعة التكوين فقد خالف مفهوم الخطاب ، وحمل الآية على ذلك يستدعي استعمال الخطاب في مثل هذا المعنى ، وأن هذا من اللغة التي نزل بها القرآن ، وإلا فليس لأحد أن يحمل خطاب الله ورسوله على ما يخطر له .
[ ص: 369 ] بل القرآن نزل بلغة العرب ، بل بلغة قريش ، وقد علمت العادة المعروفة في خطاب الله ورسوله ، فليس لأحد أن يخرج عنها .
وبالجملة فنحن ليس مقصودنا هنا نصر ، فإن هذا القول أول من عرف أنه قاله في الإسلام قول من يقول : القرآن قديم أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب ، واتبعه على ذلك طوائف ، فصاروا حزبين : حزبا يقول : القديم هو معنى قائم بالذات ، وحزبا يقول : هو حروف ، أو حروف وأصوات .
وقد صار إلى كل من القولين طوائف من المنتسبين إلى السنة من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم . وليس هذا القول ولا هذا القول قول أحد من الأئمة الأربعة ، بل الأئمة الأربعة وسائر الأئمة متفقون على أن وأحمد . وقد صرح غير واحد منهم أن الله تعالى متكلم كلام الله منزل غير مخلوق [15] ( * بمشيئته وقدرته ، وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء ، وغير ذلك من الأقوال المنقولة عنهم ، وهذه المسألة قد تكلم فيها السلف * ) [16] ، لكن اشتهر النزاع فيها في المحنة المشهورة لما امتحن أئمة الإسلام ، وكان الذي ثبته الله في المحنة وأقامه لنصر السنة هو - رحمه الله تعالى 2 ) الإمام أحمد ( 2 بن حنبل [17] - وكلامه وكلام غيره في ذلك [18] موجود في كتب كثيرة ، وإن كان طائفة من متأخري [ ص: 370 ] أصحابه [19] وافقوا على قوله : إن القرآن قديم ، فأئمة ابن كلاب [20] أصحابه على نفي ذلك ، وأن كلامه قديم ، بمعنى أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته .
ولهم قولان : هل يوصف الله بالسكوت عن كل كلام ، [ أو أنه لم يزل متكلما وإنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء ؟ ] [21] ذكرهما أبو بكر عبد العزيز وأبو عبد الله بن حامد وغيرهما . وأكثر أئمتهم وجمهورهم على أنه لم يزل متكلما ، إنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء .
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " . الحلال ما أحله الله في كتابه ، والحرام ما حرمه الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه [22] .
وغيره من السلف يقولون : إن وأحمد ، لكن لم يقل أحد منهم : إن ذلك الصوت المعين قديم . الله تعالى يتكلم بصوت
[ ص: 371 ] يقولون : إن الله تعالى يتكلم بصوت ، لكن لم يقل أحد منهم : إن ذلك الصوت المعين قديم