والقدرية من المعتزلة وغيرهم تخالف في هذا ، وتزعم أن القادر يمكنه ترجيح الفعل على الترك بدون ما يستلزم ذلك ، وادعوا أنه إن لم يكن القادر كذلك لزم أن يكون موجبا بالذات لا قادرا قالوا : والقادر المختار هو الذي إن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، فمتى قيل : إنه لا يفعل إلا مع لزوم أن يفعل لم يكن مختارا بل مجبورا .
فقال لهم الجمهور من أهل الملة وغيرهم [1] : بل هذا خطأ ، فإن [ ص: 163 ] القادر هو الذي إن شاء فعل ، وإن شاء ترك ليس هو الذي إن شاء الفعل مشيئة جازمة ، وهو قادر عليه قدرة تامة يبقى [2] الفعل ممكنا جائزا لا لازما واجبا ولا ممتنعا محالا .
بل نحن نعلم أن القادر المختار إذا أراد الفعل إرادة جازمة ، وهو قادر عليه قدرة تامة لزم وجود الفعل ، وصار واجبا بغيره لا بنفسه ، كما قال المسلمون : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وما شاء [3] سبحانه ، فهو قادر عليه ، فإذا شاء شيئا حصل مرادا له ، وهو مقدور عليه ، فيلزم [4] وجوده ، وما لم يشأ لم يكن ، فإنه ما لم يرده وإن كان قادرا عليه لم يحصل المقتضى التام لوجوده ، فلا يجوز وجوده .
قالوا : ومع القدرة التامة والإرادة الجازمة يمتنع عدم الفعل ، ولا يتصور عدم الفعل إلا لعدم كمال القدرة أو لعدم كمال الإرادة ، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه ، وهو معروف بالأدلة اليقينية ، فإن فعل المختار لا يتوقف إلا على قدرته وإرادته ، فإنه قد يكون قادرا ، ولا يريد الفعل ، فلا يفعله ، وقد يكون مريدا للفعل لكنه عاجز عنه ، فلا يفعله ، أما [5] مع كمال قدرته وإرادته فلا يتوقف الفعل على شيء غير ذلك ، والقدرة التامة والإرادة الجازمة هي المرجح التام للفعل الممكن ، فمع وجودهما يجب وجود ذلك الفعل .
والرب تعالى قادر مختار يفعل بمشيئته لا مكره له ، وليس هو موجبا [ ص: 164 ] بذاته بمعنى [6] أنه علة أزلية مستلزمة للفعل ، ولا بمعنى أنه يوجب بذات [7] لا مشيئة لها ، ولا قدرة [8] ، بل هو يوجب بمشيئته ، وقدرته ما شاء وجوده ، وهذا هو القادر المختار ، فهو قادر مختار يوجب بمشيئته ما شاء وجوده .
وبهذا التحرير يزول الإشكال . [9] في هذه المسألة ، فإن الموجب بذاته إذا كان أزليا يقارنه موجبه ، فلو كان الرب تعالى موجبا بذاته [ للعالم . ] [10] في الأزل [ لكان كل ما في العالم مقارنا له في الأزل ] [11] ، وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . فكل ما شاء الله وجوده من العالم فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته ، وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ، ومشيئته ، وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده .
ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال ، فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته ، وقدرته ، فلا منافاة بين كونه فاعلا بالقدرة والاختيار ، وبين كونه موجبا بالذات بهذا التفسير ، وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئا من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار ، فهذا باطل ممتنع ، ( * وإن [ ص: 165 ] أريد أنه علة تامة أزلية تستلزم [12] معلولها الأزلي بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلا وأبدا - الفلك ، أو غيره - فهذا أيضا باطل * ) [13] .
فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضي قدم شيء من العالم مع الله ، أو فسر بما يقتضي سلب [14] صفات الكمال عن الله ، فهو باطل ، وإن فسر بما يقتضي أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فهو حق ، فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته ، لكن لا يقتضي هذا أنه شاء شيئا من المخلوقات بعينه في الأزل ، بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة .
ولهذا كان عامة العقلاء على أن الأزلي لا يكون مرادا مقدورا ، ولا أعلم نزاعا بين النظار أن ما كان من صفات الرب أزليا لازما لذاته لا يتأخر منه شيء لا يجوز أن يكون مرادا مقدورا ، وأن ما كان مرادا مقدورا لا يكون إلا حادثا شيئا بعد شيء ، وإن كان نوعه لم يزل موجودا ، أو كان نوعه كله حادثا بعد أن لم يكن .
ولهذا كان الذين اعتقدوا أن القرآن قديم لازم لذات الله متفقين على أنه لم يتكلم بمشيئته ، وقدرته [15] ، وإنما يكون بمشيئته ، وقدرته [16] خلق إدراك في العبد لذلك المعنى القديم ، والذين قالوا : كلامه قديم ، وأرادوا أنه [ ص: 166 ] قديم العين متفقون على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته ، سواء قالوا : هو معنى واحد قائم بالذات ، أو قالوا : هو حروف ، أو حروف وأصوات قديمة أزلية الأعيان .
بخلاف أئمة السلف الذين قالوا : إنه يتكلم بمشيئته ، وقدرته ، وإنه لم يزل متكلما إذا شاء ، وكيف شاء ، ( 1 فإن هؤلاء يقولون : الكلام قديم النوع ، وإن كلمات الله لا نهاية لها ، بل لم يزل متكلما بمشيئته ، وقدرته ، ولم يزل يتكلم كيف شاء إذا شاء 1 ) [17] ، ونحو ذلك من العبارات ، والذين قالوا : إنه يتكلم بمشيئته وقدرته ، وكلامه حادث بالغير [18] قائم [19] بذاته ، أو مخلوق منفصل عنه يمتنع عندهم أن يكون قديما .
فقد اتفقت الطوائف كلها على أن المعين القديم الأزلي لا يكون مقدورا مرادا بخلاف ما كان نوعه لم يزل موجودا شيئا بعد شيء ، فهذا مما يقول أئمة السلف وأهل السنة والحديث : إنه يكون بمشيئته وقدرته ، كما يقول ذلك جماهير الفلاسفة الأساطين الذين يقولون بحدوث الأفلاك وغيرها وأرسطو ، وأصحابه الذين يقولون بقدمها .
فأئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة يقولون : إن الأفلاك محدثة كائنة بعد أن لم تكن مع قولهم : إنه لم يزل النوع المقدور المراد موجودا شيئا بعد شيء .
ولكن كثيرا من أهل الكلام يقولون : ما كان مقدورا مرادا يمتنع أن [ ص: 167 ] يكون لم يزل شيئا بعد شيء ، ومنهم من يقول بمنع ذلك في المستقبل أيضا .
وهؤلاء هم الذين ناظرهم الفلاسفة القائلون بقدم العالم ، ولما ناظروهم واعتقدوا أنهم قد خصموهم وغلبوهم اعتقدوا أنهم قد خصموا أهل الملل مطلقا لاعتقادهم الفاسد الناشئ عن جهلهم بأقوال أئمة أهل الملل بل وبأقوال أساطين الفلاسفة القدماء وظنهم أنه [20] ليس لأئمة الملل وأئمة الفلاسفة قول إلا قول هؤلاء المتكلمين ، وقولهم أو قول المجوس والحرانية [21] ، أو قول من يقول بقدم مادة بعينها ، ونحو ذلك من الأقوال التي قد يظهر فسادها للنظار ، وهذا مبسوط في موضع آخر .
والمقصود هنا أن عامة العقلاء مطبقون على أن العلم بكون الشيء المعين مرادا مقدورا يوجب العلم بكونه حادثا كائنا بعد أن لم يكن ، بل هذا عند العقلاء من المعلوم بالضرورة [22] ، ولهذا كان مجرد تصور العقلاء أن الشيء مقدور للفاعل مراد له فعله بمشيئته وقدرته موجب للعلم [23] بأنه حادث ، بل مجرد تصورهم كون الشيء مفعولا . أو مخلوقا أو مصنوعا أو نحو ذلك من العبارات يوجب العلم بأنه محدث كائن بعد أن لم يكن ، ثم بعد هذا قد ينظر في أنه فعله بمشيئته وقدرته ، وإذا [ ص: 168 ] علم أن الفاعل لا يكون فاعلا إلا بمشيئته وقدرته ، وما كان مقدورا مرادا ، فهو محدث كان هذا أيضا دليلا ثانيا [24] على أنه محدث .
ولهذا [ كان ] [25] كل من تصور من العقلاء أن الله تعالى خلق السماوات والأرض أو خلق [26] شيئا من الأشياء كان هذا مستلزما لكون ذلك المخلوق محدثا كائنا بعد أن لم يكن .
وإذا قيل لبعضهم : هو قديم مخلوق ، أو قديم [ محدث ] [27] ، وعنى بالمخلوق والمحدث ما يعنيه هؤلاء المتفلسفة الدهرية المتأخرون الذين يريدون بلفظ المحدث أنه معلول ، ويقولون : إنه قديم أزلي مع كونه معلولا ممكنا يقبل الوجود والعدم ، فإذا تصور العقل [ الصريح ] [28] هذا المذهب جزم بتناقضه ، وأن أصحابه جمعوا بين النقيضين حيث قدروا مخلوقا محدثا معلولا مفعولا ممكنا أن يوجد وأن يعدم ، وقدروه مع ذلك قديما أزليا واجب الوجود بغيره يمتنع عدمه .
وقد بسطنا هذا في مواضع في الكلام على المحصل وغيره ، وذكرنا أن ما ذكره الرازي [29] عن أهل الكلام من أنهم يجوزون وجود مفعول [ ص: 169 ] معلول أزلي للموجب بذاته لم يقله [30] أحد منهم ، بل هم متفقون على أن كل مفعول ، فإنه لا يكون إلا محدثا .
وما ذكره هو وأمثاله موافقة لابن سينا من أن الممكن وجوده وعدمه قد يكون قديما أزليا قول باطل عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين .
حتى عند أرسطو وأتباعه القدماء والمتأخرين ، فإنهم موافقون لسائر العقلاء في أن كل ممكن يمكن وجوده وعدمه لا يكون إلا محدثا كائنا بعد أن لم يكن ، وأرسطو إذا قال : إن الفلك قديم لم يجعله مع ذلك ممكنا يمكن وجوده وعدمه .
والمقصود أن العلم بكون الشيء مقدورا مرادا يوجب العلم بكونه محدثا ، بل العلم بكونه مفعولا يوجب العلم بكونه محدثا ، فإن الفعل والخلق والإبداع والصنع ونحو ذلك لا يعقل إلا مع تصور حدوث المفعول .
وأيضا ، فالجمع بين كون الشيء مفعولا وبين كونه قديما أزليا مقارنا لفاعله . [31] في الزمان جمع بين المتناقضين ، ولا يعقل قط في الوجود [ ص: 170 ] فاعل قارنه مفعوله المعين [32] سواء سمي [ علة ] فاعلة ، أو لم يسم [33] ، ولكن يعقل كون الشرط مقارنا للمشروط .


