الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما الطريق الثاني في الجواب فنقول : الذي عليه أئمة الإسلام أن ما كان مشروعا لم يترك لمجرد فعل أهل البدع : لا الرافضة ولا غيرهم . وأصول الأئمة كلهم توافق [1] هذا ، منها مسألة التسطيح الذي ذكرها ، [ ص: 150 ] فإن مذهب أبي حنيفة وأحمد أن تسنيم القبور أفضل ، كما ثبت في الصحيح أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مسنما [2] ، ولأن ذلك أبعد عن مشابهة أبنية الدنيا ، وأمنع عن القعود [3] على القبور . والشافعي يستحب التسطيح لما روي من الأمر بتسوية [4] القبور ، فرأى أن التسوية هي التسطيح [5] ، ثم إن بعض أصحابه قال : [ إن ] [6] هذا شعار الرافضة فيكره ذلك ، فخالفه جمهور الأصحاب [7] وقالوا : بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة .

                  وكذلك الجهر بالبسملة هو [8] مذهب الرافضة ، وبعض الناس تكلم في الشافعي بسببها ، وبسبب [9] القنوت ، ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية ؛ لأن المعروف في العراق أن الجهر [ كان ] [10] من شعار [11] [ ص: 151 ] الرافضة ، وأن القنوت في الفجر كان من شعار [12] القدرية [ الرافضة ] [13] ، حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة ؛ لأنه كان عندهم من شعار الرافضة ، [ كما يذكرون المسح على الخفين ؛ لأن تركه كان من شعار الرافضة ] [14] ، ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة .

                  وكذلك إحرام أهل العراق من العقيق يستحب [15] عنده ، وإن كان ذلك مذهب الرافضة ، ونظائر هذا كثيرة .

                  وكذلك مالك يضعف أمر المسح على الخفين ، حتى أنه في المشهور عنه لا يمسح في الحضر ، وإن وافق ذلك قول الرافضة . وكذلك مذهبه ومذهب أحمد ، المشهور عنه [16] أن المحرم لا يستظل [17] بالمحمل ، وإن كان ذلك قول الرافضة . وكذلك قال مالك : إن السجود يكره على غير جنس الأرض ، والرافضة يمنعون من [18] السجود على غير الأرض . وكذلك أحمد بن حنبل يستحب المتعة - متعة الحج - ويأمر بها حتى يستحب [19] هو وغيره من الأئمة - أئمة أهل الحديث - لمن أحرم مفردا أو قارنا أن [ ص: 152 ] يفسخ ذلك إلى العمرة ويصير متمتعا ؛ لأن الأحاديث الصحيحة جاءت بذلك ؛ حتى قال سلمة بن شبيب [20] للإمام أحمد : يا أبا عبد الله قويت قلوب الرافضة لما أفتيت أهل خراسان بالمتعة ، فقال : يا سلمة ، كان يبلغني عنك أنك أحمق ، وكنت أدفع عنك ، والآن فقد [21] ثبت عندي أنك أحمق : عندي أحد عشر حديثا صحاحا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتركها لقولك ؟ ! .

                  وكذلك أبو حنيفة مذهبه أنه يجوز الصلاة على [22] غير النبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وهذا هو المنصوص عن أحمد في رواية غير واحد من أصحابه . واستدل بما نقله عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لعمر [ - رضي الله عنه - [23] ] : صلى الله عليك . وهو اختيار أكثر أصحابه ، كالقاضي أبي يعلى ، وابن عقيل ، وأبي محمد عبد القادر الجيلي [24] وغيرهم ، ولكن نقل عن مالك والشافعي المنع من ذلك ، وهو [ ص: 153 ] اختيار بعض أصحاب أحمد لما روي عن ابن عباس [ - رضي الله عنهما - [25] ] أنه قال : لا تصلح الصلاة [ من أحد على أحد ] على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - [26] ( * وهذا الذي قاله ابن عباس [ - رضي الله عنه - ] [27] قاله - والله أعلم - لما صارت الشيعة تخص بالصلاة عليا دون غيره ، [ ويجعلون ذلك كأنه مأمور به في حقه بخصوصه دون غيره ] [28] ، وهذا خطأ بالاتفاق ، فإن الله تعالى أمر بالصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالصلاة عليه وعلى آله ، فيصلى على جميع آله تبعا له [29] .

                  وآل محمد - صلى الله عليه وسلم - عند الشافعي وأحمد هم الذين حرمت [30] عليهم الصدقة . وذهبت طائفة من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما إلى أنهم أمة [ محمد - صلى الله عليه وسلم - ] . وقالت [31] طائفة من الصوفية : إنهم الأولياء من أمته ، وهم المؤمنون المتقون ، وروي [32] في ذلك حديث [ ص: 154 ] ضعيف [33] لا يثبت ، فالذي قالته الحنفية وغيرهم ، أنه إذا كان عند قوم [34] لا يصلون إلا على علي دون الصحابة ، فإذا صلى على علي ظن أنه منهم ، فيكره [35] لئلا يظن به أنه رافضي ، فأما إذا علم أنه صلى [36] على علي وعلى سائر الصحابة لم يكره ذلك .

                  وهذا القول يقوله سائر الأئمة [37] . فإنه إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحبا * [38] ) . [ ومن هنا ] [39] ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعارا لهم ، فإنه لم يترك واجبا بذلك [40] ، لكن قال [41] : في إظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميز السني من الرافضي ، ومصلحة التميز [42] عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم ، أعظم من مصلحة هذا المستحب . وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك [43] المستحب ، لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يجعل المشروع ليس [ ص: 155 ] بمشروع دائما ، بل هذا مثل لباس [44] شعار الكفار وإن كان مباحا [ إذا ] [45] لم يكن شعارا لهم ، كلبس العمامة الصفراء ، فإنه جائز إذا لم يكن شعارا لليهود ، فإذا صار شعارا لهم نهي عن ذلك [46] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية