الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل [1] .

                  قال الرافضي [2] : " وكمسح الرجلين الذي نص الله تعالى عليه [ ص: 171 ] في كتابه [ العزيز ] [3] فقال : ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) [ سورة المائدة : 6 ] وقال ابن عباس [4] : عضوان مغسولان ، وعضوان ممسوحان ، [ فغيروه ] [5] وأوجبوا الغسل " .

                  فيقال : الذين نقلوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء [6] قولا وفعلا ، والذين تعلموا الوضوء منه وتوضئوا على عهده ، [ وهو يراهم ويقرهم عليه ] [7] ، ونقلوه إلى من بعدهم ، أكثر عددا [8] من الذين نقلوا لفظ هذه الآية ، فإن جميع المسلمين كانوا يتوضئون على عهده ، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإن هذا العمل لم يكن معهودا عندهم في الجاهلية ، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث ، حتى نقلوا عنه من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه قال : " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " [9] ، مع أن الفرض إذا كان مسح ظهر القدم ، كان [ ص: 172 ] غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع ، [10] كما تدعو الطباع إلى طلب الرئاسة والمال [11] ؛ فإن جاز أن يقال : إنهم كذبوا وأخطئوا فيما نقلوه عنه من ذلك ، كان الكذب والخطأ فيما نقل [12] من لفظ الآية أقرب إلى الجواز .

                  وإن قيل : بل لفظ [13] الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن الخطأ فيه ، فثبوت التواتر في نقل [14] الوضوء عنه أولى وأكمل ، ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة ، فإن المسح جنس تحته نوعان : الإسالة ، وغير الإسالة ، كما تقول العرب : تمسحت للصلاة ، فما كان بالإسالة فهو الغسل ، وإذا خص أحد النوعين باسم الغسل فقد يخص النوع الآخر باسم المسح ، فالمسح يقال على المسح العام الذي يندرج فيه الغسل ، ويقال على الخاص الذي لا يندرج فيه الغسل .

                  ولهذا نظائر كثيرة ، مثل لفظ " ذوي الأرحام " فإنه يعم العصبة [ كلهم ] [15] وأهل الفروض وغيرهم ، ثم لما كان للعصبة وأصحاب [ ص: 173 ] الفروض اسم يخصهما ، بقي لفظ " ذوي الأرحام " مختصا في العرف بمن لا يرث بفرض ولا تعصيب [16] .

                  وكذلك لفظ " الجائز " و " المباح " يعم ما ليس بحرام . ثم قد يختص بأحد الأقسام الخمسة [17] . وكذلك لفظ " الممكن " يقال [18] على ما ليس بممتنع ، ثم يخص [19] بما ليس بواجب ولا ممتنع ، فيفرق بين الواجب والجائز والممكن العام والخاص . وكذلك لفظ " الحيوان " [ ونحوه ] [20] يتناول الإنسان وغيره ، ثم قد يختص بغير الإنسان .

                  ومثل هذا كثير : إذا كان لأحد النوعين اسم يخصه ، بقي الاسم العام مختصا بالنوع الآخر . ولفظ " المسح " من هذا الباب . وفي القرآن ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل ، بل المسح الذي الغسل قسم منه ، فإنه قال [21] : ( إلى الكعبين ) ولم يقل : إلى الكعاب ، كما قال : ( إلى المرافق ) ، فدل على أنه ليس في كل رجل [22] كعب واحد ، كما في كل يد مرفق واحد ، بل في كل رجل كعبان ، فيكون [ ص: 174 ] تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين وهذا هو الغسل فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين وفي ذكره الغسل في العضوين الأولين والمسح في الآخرين ، التنبيه على أن هذين العضوين يجب فيهما المسح العام ، فتارة يجزئ المسح الخاص ، كما في مسح الرأس والعمامة والمسح على الخفين ، وتارة لا بد من المسح الكامل الذي هو غسل [23] ، كما في الرجلين المكشوفتين .

                  وقد تواترت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمسح على الخفين وبغسل [24] الرجلين . والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة ، كما تخالف الخوارج نحو ذلك ، مما يتوهمون أنه مخالف لظاهر القرآن ، بل تواتر غسل الرجلين والمسح على الخفين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [25] أعظم من تواتر قطع اليد في ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو عشرة دراهم ، أو نحو ذلك .

                  وفي ذكر المسح على الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجل ، فإن السرف يعتاد فيهما كثيرا ، وفيه اختصار للكلام [26] ، فإن [27] المعطوف والمعطوف عليه إذا كان فعلاهما من جنس واحد اكتفي بذكر أحد النوعين ، كقوله : [ ص: 175 ] علفتها تبنا وماء باردا حتى غدت همالة عيناها

                  والماء يسقى ، لا يقال : علفت الماء ، لكن العلف والسقي [28] يجمعهما معنى الإطعام . وكذلك قوله :

                  ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا



                  أي : ومعتقلا [29] رمحا ، لكن التقلد [30] والاعتقال يجمعهما معنى الحمل .

                  وكذلك قوله تعالى : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون ، بأكواب وأباريق وكأس من معين ) [ سورة الواقعة : 17 ، 18 ] إلى قوله تعالى : ( وحور عين ) [ سورة الواقعة : 22 ] . والحور العين لا يطاف بهن [31] ، ولكن المعنى : يؤتى بهذا وبهذا . وهم قد يحذفون ما يدل الظاهر على جنسه لا على نفسه ، كما في قوله تعالى[32] : ( يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) [ سورة الإنسان : 31 ] . والمعنى : يعذب الظالمين .

                  وهذه الآية فيها قراءتان مشهورتان : الخفض والنصب ، فالذين قرءوا بالنصب ، قال غير واحد منهم : أعاد الأمر إلى الغسل ، أي : وامسحوا برءوسكم ، واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، والقراءتان [33] كالآيتين . ومن قال : إنه عطف على [ ص: 176 ] محل الجار والمجرور ، يكون المعنى : وامسحوا برءوسكم ، وامسحوا أرجلكم إلى الكعبين . وقولهم [34] : مسحت الرجل ، ليس مرادفا لقوله [35] : مسحت بالرجل ، فإنه إذا عدي بالباء أريد به [36] معنى الإلصاق ، أي ألصقت به شيئا . وإذا قيل : مسحته ، لم يقتض ذلك أن يكون ألصقت به شيئا ، وإنما يقتضي مجرد المسح ، وهو لم يرد مجرد المسح [37] باليد بالإجماع ، فتعين أنه إذا [38] مسحه بالماء ، وهو مجمل ، فسرته السنة ، كما في قراءة الجر .

                  وفي الجملة فالقرآن ليس فيه نفي إيجاب الغسل ، بل فيه إيجاب المسح ، فلو قدر أن السنة أوجبت قدرا زائدا على ما أوجبه القرآن لم يكن في هذا رفعا لموجب القرآن ، فكيف إذا فسرته وبينت معناه ؟ وهذا مبسوط في موضعه .

                  وفي الجملة فيعلم أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه ، فالسنة المتواترة [39] تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القرآن ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين للناس لفظ القرآن ومعناه ، كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن : عثمان [40] بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم ، أنهم [ ص: 177 ] كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها [41] حتى يتعلموا [42] معناها .

                  وما تقوله الإمامية من [43] أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين اللذين هما مجتمع [44] الساق والقدم عند معقد الشراك [45] ، أمر لا يدل عليه القرآن بوجه من الوجوه ، ولا فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث يعرف [46] ، ولا هو معروف عن سلف الأمة ، بل هم مخالفون للقرآن والسنة المتواترة ، ولإجماع السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان [47] .

                  فإن لفظ القرآن يوجب المسح بالرءوس [48] وبالأرجل إلى الكعبين ، مع إيجابه لغسل الوجوه والأيدي [49] إلى المرافق ، فكان في ظاهره ما يبين [50] أن في كل يد مرفقا ، وفي كل رجل كعبين فهذا على قراءة الخفض ، وأما قراءة النصب فالعطف إنما يكون على المحل [51] إذا كان المعنى واحدا ، كقول الشاعر : [ ص: 178 ]

                  معاوي إننا بشر فأسجح     فلسنا بالجبال ولا الحديدا

                  [52] فلو كان [53] معنى قوله : مسحت برأسي ورجلي ، هو : معنى مسحت رأسي ورجلي ، لأمكن كون العطف [54] على المحل . والمعنى مختلف [55] ؛ فعلم أن قوله : " وأرجلكم " بالنصب ، عطف على : وأيديكم ، كما قاله الذين قرءوه كذلك .

                  وحينئذ فهذه القراءة نص في وجوب الغسل ، وليس في واحدة من القراءتين ما يدل ظاهرها [56] على قولهم ، فعلم أن القوم لم يتمسكوا [ إلا ] بظاهر القرآن [57] ، وهذا حال سائر أهل الأقوال الضعيفة الذين يحتجون بظاهر [ ص: 179 ] القرآن على ما يخالف السنة إذا خفي الأمر عليهم ، [ مع أنه ] [58] لم يوجد في ظاهر القرآن ما يخالف السنة ، كمن قال من الخوارج : لا نصلي [59] في سفر [60] إلا أربعا [61] ، ومن قال : إن الأربع أفضل في السفر [62] من الركعتين [63] . ومن قال : لا نحكم بشاهد ويمين .

                  وقد بسط الكلام على ذلك [ في مواضع ] وبين [64] أن ما دل عليه ظاهر القرآن حق ، وأنه ليس بعام مخصوص ، فإنه ليس هناك عموم لفظي ، وإنما هو مطلق ، كقوله تعالى : ( فاقتلوا المشركين ) [ سورة التوبة : 5 ] فإنه عام في الأعيان ، مطلق في الأحوال ، وقوله : ( يوصيكم الله في أولادكم ) [ سورة النساء : 11 ] عام في الأولاد ، مطلق في الأحوال .

                  ولفظ " الظاهر " يراد به ما قد يظهر [65] للإنسان ، وقد يراد به ما يدل عليه اللفظ . فالأول يكون بحسب فهوم [66] الناس . وفي القرآن مما [67] يخالف الفهم الفاسد شيء كثير ، وأما الثاني فالكلام فيه .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية