الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  الوجه السابع : أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها ، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها ؛ فإنه ليس فيما ذكره [1] ما يوجب الغضب عليه ؛ إذ لم يحكم - لو كان ذلك صحيحا - إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه . ومن طلب أن يحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب [2] وحلف أن لا يكلم الحاكم ، ولا صاحب الحاكم ، لم يكن هذا مما يحمد عليه [3] ولا مما يذم به الحاكم ، بل هذا إلى أن يكون جرحا أقرب منه إلى أن يكون مدحا . ونحن نعلم أن ما يحكى عن فاطمة [ ص: 244 ] وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين . وإذا كان بعضها ذنبا فليس القوم معصومين بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم . وكذلك ما ذكره من حلفها أنها لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشتكي إليه ، أمر لا يليق أن يذكر عن فاطمة - رضي الله عنها - ؛ فإن الشكوى إنما تكون إلى الله تعالى ، كما قال العبد الصالح : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) [ سورة يوسف : 86 ] ، وفي دعاء موسى - عليه السلام - اللهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان ، وبك المستغاث ، وعليك التكلان . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس : " إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله " الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه - في : سنن الترمذي 4 ( كتاب صفة القيامة ، باب رقم 22 ) وقال الترمذي : " هذا حديث حسن صحيح " . وأوله فيه : " يا غلام إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك . . . الحديث ، وهو في المسند : ( ط . المعارف ) 4 \ 233 ، 269 270 286 287 . ، ولم يقل : سلني ولا استعن بي [4] .

                  وقد قال تعالى : ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) [ سورة الشرح : 7 ، 8 ] .

                  ثم من المعلوم لكل عاقل أن المرأة [5] إذا طلبت مالا من ولي أمر [6] فلم يعطها [ إياه ] [7] لكونها لا تستحقه عنده ، وهو لم [8] يأخذه ولم يعطه لأحد من [ ص: 245 ] أهله ولا أصدقائه بل أعطاه لجميع المسلمين ، وقيل : إن الطالب غضب على الحاكم - كان غاية ذلك أنه غضب لكونه لم يعطه مالا ، وقال [9] الحاكم : إنه لغيرك لا لك ، فأي مدح للطالب في هذا الغضب ؟ لو كان مظلوما [10] محضا لم يكن غضبه إلا للدنيا . وكيف والتهمة عن [11] الحاكم الذي لا يأخذ لنفسه أبعد من التهمة عن الطالب [12] الذي يأخذ لنفسه ، فكيف تحال [13] التهمة على من لا يطلب [14] لنفسه مالا ، ولا تحال على من يطلب [15] لنفسه المال ؟ .

                  وذلك [16] الحاكم يقول : إنما [17] أمنع لله لأني لا يحل لي أن آخذ المال من مستحقه فأدفعه إلى غير مستحقه ، والطالب يقول : إنما أغضب لحظي القليل [18] من المال . أليس من يذكر [ مثل ] [19] هذا عن فاطمة ويجعله من مناقبها جاهلا ؟ .

                  أو ليس الله قد ذم المنافقين الذين قال فيهم : [ ص: 246 ] ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) [ سورة التوبة : 58 ، 59 ] فذكر الله [20] قوما رضوا إن أعطوا ، وغضبوا إن لم يعطوا ، فذمهم بذلك ، فمن مدح فاطمة بما فيه شبه من هؤلاء ألا يكون [21] قادحا فيها ؟ فقاتل الله الرافضة ، وانتصف لأهل البيت منهم ، فإنهم ألصقوا بهم من العيوب [22] والشين مالا يخفى على ذي عين .

                  ولو قال قائل : فاطمة لا تطلب إلا حقها ، لم يكن هذا بأولى من قول القائل : أبو بكر لا يمنع يهوديا ولا نصرانيا حقه فكيف يمنعه سيدة نساء العالمين حقها ؟ فإن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد شهدا لأبي بكر أنه ينفق ماله لله ، فكيف يمنع الناس أموالهم ؟ وفاطمة - رضي الله عنها - قد طلبت من النبي - صلى الله عليه وسلم - مالا ، فلم يعطها إياه . كما ثبت في الصحيحين عن علي - رضي الله عنه - في حديث الخادم لما ذهبت فاطمة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادما ، فلم يعطها خادما وعلمها التسبيح [23] . وإذا جاز أن تطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما [ ص: 247 ] يمنعها [ النبي - صلى الله عليه وسلم - ] [24] إياه ولا يجب عليه أن [25] يعطيها إياه [26] ، جاز أن تطلب ذلك من أبي بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلم أنها ليست معصومة أن تطلب ما لا يجب إعطاؤها إياه . وإذا لم يجب عليه الإعطاء لم يكن مذموما بتركه [27] ما ليس بواجب وإن كان مباحا . فأما [28] إذا قدرنا أن الإعطاء ليس بمباح ، فإنه يستحق أن يحمد على المنع . وأما أبو بكر فلم يعلم أنه منع أحدا حقه ، ولا ظلم أحدا حقه ، [29] لا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بعد موته .

                  وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تدفن ليلا ولا يصلي عليها أحد منهم ، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجل جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها ، [30] وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أولى منه بالسعي المشكور ، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه ، ولا يضر [31] أفضل الخلق أن [ ص: 248 ] يصلي عليه شر الخلق ، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه [ ويسلم عليه ] [32] الأبرار والفجار بل [33] والمنافقون ، وهذا إن لم ينفعه لم يضره ، وهو يعلم أن في أمته منافقين ، ولم ينه أحدا من أمته عن [34] الصلاة عليه ، بل أمر [35] الناس كلهم بالصلاة والسلام عليه ، مع أن فيهم المؤمن والمنافق ، فكيف يذكر في معرض الثناء عليها والاحتجاج لها [36] مثل هذا الذي لا يحكيه ولا يحتج به [37] إلا مفرط في الجهل ، ولو وصى [38] موص بأن المسلمين لا يصلون عليه لم تنفذ وصيته ، فإن صلاتهم عليه خير له بكل حال .

                  ومن المعلوم أن إنسانا لو ظلمه ظالم ، فأوصى بأن لا يصلي عليه ذلك الظالم ، لم يكن هذا من الحسنات التي يحمد عليها ، ولا هذا مما أمر الله به ورسوله . فمن يقصد مدح فاطمة وتعظيمها ، كيف يذكر مثل هذا الذي لا مدح فيه ، بل المدح في خلافه ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع ؟ ! .

                  وأما قوله : " ورووا جميعا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك " فهذا كذب منه ، ما رووا [39] هذا [ ص: 249 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة ، ولا له إسناد معروف [40] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا صحيح ولا حسن . ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة ، وبأن الله يرضى عنها ، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي [41] وطلحة والزبير وسعيد [42] وعبد الرحمن [ بن عوف ] [43] بذلك نشهد ، ونشهد بأن [44] الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع ، كقوله تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) [ سورة التوبة : 100 ] وقوله تعالى : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) [ سورة الفتح : 18 ] وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو عنهم راض ، ومن - رضي الله عنه - ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه [45] كائنا من كان ، بل من [46] - رضي الله عنه - ورضي عن الله ، يكون رضاه موافقا لرضا الله ، فإن الله راض عنه ، فهو موافق لما يرضي الله[47] ، وهو راض عن الله ، فحكم الله [48] موافق لرضاه ، [ ص: 250 ] وإذا رضوا بحكمه غضبوا لغضبه ، فإن من رضي بغضب غيره [49] لزم أن يغضب لغضبه ، فإن الغضب إذا كان مرضيا لك ، فعلت ما هو مرض لك ، وكذلك الرب [ تعالى - وله المثل الأعلى ] [50] - إذا رضي عنهم غضب لغضبهم ؛ إذ هو راض بغضبهم .

                  وأما قوله : " رووا جميعا أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني ، ومن آذاني آذى الله " فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ ، بل [ روي ] بغيره [51] ، كما روي في سياق حديث [52] خطبة علي لابنة أبي جهل ، لما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا فقال : " إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، وإني لا آذن ، ثم لا آذن ، ثم لا آذن ، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم " وفي رواية : " إني أخاف أن تفتن [53] في دينها " ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فقال [54] : " حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى لي . وإني لست أحل حراما ، ولا أحرم حلالا ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا " [55] رواه البخاري ومسلم [ في الصحيحين ] [56] من [ ص: 251 ] رواية علي بن الحسين والمسور بن مخرمة سبق الحديث في هذا الجزء ص 145 . ورواية علي بن الحسين هي عن المسور بن مخرمة في : مسلم 4 \ 1903 ( كتاب فضائل الصحابة ، باب فضائل فاطمة ) وفيه . . أن علي بن الحسين حدثه أنهم حين قدموا المدينة من عند يزيد بن معاوية ، مقتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - ، لقيه المسور بن مخرمة . . . الحديث وفيه : إن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة ، فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا ، وأنا يومئذ محتلم ، فقال : " إن فاطمة مني ، وإني أتخوف في دينها " . قال : ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن قال : " حدثني فصدقني ووعدني فأوفى لي . وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا " . قال النووي في شرحه على مسلم 16 \ 24 : " قال العلماء في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل حال وعلى كل وجه ، وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحا وهو حي ، وهذا بخلاف غيره . قالوا : وقد أعلم - صلى الله عليه وسلم - بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لست أحرم حلالا " . ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين : إحداهما : أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة . فيتأذى حينئذ النبي - صلى الله عليه وسلم - : فيهلك من آذاه ، فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة . والثانية : خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة . . ويحتمل أن المراد : تحريم جمعهما ، ويكون معنى : " لا أحرم حلالا " أي لا أقول شيئا يخالف حكم الله ، فإذا أحل شيئا لم أحرمه وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه ، لأن سكوتي تحليل له ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنت نبي الله وبنت عدو الله " . ، فسبب الحديث خطبة علي - رضي الله عنه - لابنة أبي جهل ، والسبب داخل في اللفظ قطعا ، إذ اللفظ الوارد على سبب [57] لا يجوز إخراج سببه منه [58] ، بل السبب يجب دخوله بالاتفاق .

                  وقد قال في الحديث : " يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها " ومعلوم قطعا أن خطبة ابنة أبي جهل عليها رابها وآذاها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 252 ] رابه ذلك وآذاه ، فإن كان هذا وعيدا [59] لاحقا بفاعله ، لزم أن يلحق هذا الوعيد علي بن أبي طالب ، وإن لم يكن وعيدا لاحقا بفاعله ، كان أبو بكر أبعد عن الوعيد من علي .

                  وإن قيل : إن عليا تاب من تلك الخطبة ورجع عنها .

                  قيل : فهذا يقتضي أنه غير معصوم . وإذا جاز أن من راب [60] فاطمة آذاها ، يذهب ذلك بتوبته ، جاز أن يذهب بغير ذلك من الحسنات الماحية ، فإن ما هو أعظم من هذا الذنب تذهبه الحسنات الماحية والتوبة والمصائب المكفرة .

                  وذلك أن هذا الذنب ليس من الكفر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة ، ولو كان كذلك لكان علي - والعياذ بالله - قد ارتد عن [ دين ] [61] الإسلام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - . ومعلوم أن الله تعالى نزه عليا من ذلك . والخوارج الذين قالوا : إنه ارتد بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقولوا : إنه ارتد في حياته ، ومن ارتد فلا بد [62] أن يعود إلى الإسلام أو يقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا لم يقع . وإذا كان هذا الذنب هو مما دون الشرك فقد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ سورة النساء : 48 ] .

                  [ ص: 253 ] وإن قالوا بجهلهم : إن هذا الذنب كفر [63] ليكفروا [64] بذلك أبا بكر ، لزمهم تكفير علي ، واللازم باطل فالملزوم مثله . وهم دائما يعيبون أبا بكر وعمر وعثمان ، بل [65] ويكفرونهم بأمور [66] قد صدر من علي ما هو مثلها أو أبعد عن العذر منها ، فإن كان مأجورا أو معذورا فهم أولى بالأجر والعذر ، وإن قيل باستلزام الأمر الأخف فسقا أو كفرا ، كان استلزام الأغلظ لذلك أولى .

                  وأيضا فيقال : إن فاطمة - رضي الله عنها - إنما عظم أذاها لما في ذلك من أذى أبيها ، فإذا دار الأمر بين أذى أبيها وأذاها [67] كان الاحتراز عن أذى أبيها أوجب . وهذا حال أبي بكر وعمر ، فإنهما احترزا عن [68] أن يؤذيا أباها أو يريباه [69] بشيء ، فإنه عهد عهدا وأمر بأمر [70] ، فخافا إن غيرا عهده وأمره أن يغضب لمخالفة أمره وعهده ويتأذى بذلك . وكل عاقل يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حكم بحكم ، وطلبت فاطمة أو غيرها ما يخالف ذلك الحكم ، كان مراعاة حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى ، فإن طاعته واجبة ، ومعصيته محرمة ، ومن تأذى لطاعته كان مخطئا في [ ص: 254 ] تأذيه بذلك ، وكان الموافق لطاعته مصيبا في طاعته . وهذا بخلاف من آذاها لغرض نفسه [71] لا لأجل طاعة الله ورسوله .

                  ومن تدبر حال أبي بكر في رعايته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه إنما قصد طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا أمرا [72] آخر ، يحكم أن حاله أكمل وأفضل [ وأعلى ] [73] من حال علي رضي الله عنهما ، وكلاهما سيد كبير من أكابر أولياء الله المتقين ، وحزب الله المفلحين ، [ وعباد الله الصالحين ] [74] ، ومن السابقين الأولين ، ومن أكابر المقربين ، الذين يشربون بالتسنيم . ولهذا كان أبو بكر - رضي الله عنه - يقول : " والله لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي أن أصل من قرابتي " [75] . وقال : " ارقبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته " رواه البخاري عنه [76] .

                  [ ص: 255 ] لكن المقصود أنه لو قدر أن أبا بكر آذاها ، فلم يؤذها لغرض نفسه ، بل ليطيع الله ورسوله ، ويوصل الحق إلى مستحقه . وعلي - رضي الله عنه - كان قصده أن يتزوج عليها ، فله في أذاها غرض ، بخلاف أبي بكر . فعلم أن أبا بكر كان أبعد أن يذم بأذاها من علي ، وأنه إنما قصد طاعة الله ورسوله بما لا حظ له فيه ، بخلاف علي ؛ فإنه كان له [77] حظ فيما رابها به . وأبو بكر كان من جنس من هاجر إلى الله ورسوله ، وهذا لا يشبه من كان مقصوده امرأة يتزوجها [78] . والنبي - صلى الله عليه وسلم - يؤذيه ما يؤذي فاطمة إذا لم يعارض ذلك أمر الله تعالى ، فإذا أمر الله تعالى بشيء فعله ، وإن تأذى من تأذى من أهله وغيرهم ، وهو في حال طاعته لله يؤذيه ما يعارض [79] طاعة الله ورسوله . وهذا الإطلاق كقوله : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني[80] ، 16 \ 39 40 ، 17 \ 107 ، 18 \ 95 ؛ المسند ( ط . الحلبي ) 2 \ 467 ، 471 ، 511 . " ثم قد بين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم [ ص: 256 ] : " إنما الطاعة في المعروف [81] " . فإذا كانت طاعة أمرائه أطلقها ومراده بها الطاعة في المعروف ، فقوله : " من آذاها فقد آذاني " يحمل على الأذى في المعروف بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن طاعة أمرائه فرض ، وضدها معصية كبيرة . وأما فعل ما يؤذي فاطمة فليس هو بمنزلة معصية أمر النبي [82] - صلى الله عليه وسلم - ، وإلا لزم أن يكون علي قد [83] فعل ما هو أعظم [84] من معصية الله ورسوله ، فإن معصية أمرائه معصيته ، ومعصيته معصية الله [85] . ( * ثم إذا عارض معارض وقال : أبو بكر وعمر وليا الأمر ، والله قد أمر بطاعة أولي [86] الأمر ، وطاعة ولي الأمر طاعة لله ومعصيته معصية لله [87] ، * ) [88] ، فمن سخط أمره وحكمه فقد سخط أمر الله وحكمه .

                  ثم أخذ يشنع على علي وفاطمة - رضي الله عنهما - بأنهما ردا أمر الله ، وسخطا حكمه ، وكرها ما أرضى الله ؛ لأن الله يرضيه طاعته وطاعة ولي الأمر ، فمن كره طاعة ولي الأمر فقد كره رضوان الله ، والله يسخط [ ص: 257 ] لمعصيته ، ومعصية ولي الأمر معصيته ، فمن اتبع معصية ولي الأمر فقد اتبع ما أسخط الله وكره رضوانه . وهذا التشنيع [89] ونحوه [90] على علي وفاطمة - رضي الله عنهما - أوجه من تشنيع الرافضة على أبي بكر وعمر ; وذلك لأن [91] النصوص الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في طاعة ولاة الأمور ، ولزوم الجماعة [92] ، والصبر على ذلك مشهورة كثيرة ، بل لو قال قائل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بطاعة ولاة الأمور وإن استأثروا ، والصبر على جورهم ، وقال : " إنكم ستلقون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " [93] وقال : " أدوا إليهم حقهم ، وسلوا الله حقكم [94] " وأمثال ذلك . فلو قدر أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانا ظالمين مستأثرين بالمال لأنفسهما ، لكان [95] الواجب مع ذلك طاعتهما والصبر على جورهما .

                  ثم لو [96] أخذ هذا القائل يقدح في علي وفاطمة - رضي الله عنهما - ونحوهما بأنهم لم يصبروا ولم يلزموا الجماعة ، بل جزعوا وفرقوا الجماعة ، وهذه معصية عظيمة - لكانت هذه الشناعة أوجه من تشنيع [ ص: 258 ] الرافضة على أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ، فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجبا فعلا محرما أصلا ، بخلاف غيرهما ، فإنه قد تقوم الحجة بنوع من الذنوب التي لم يفعل مثلها أبو بكر ولا عمر . وما ينزه علي وفاطمة - رضي الله عنهما - عن ترك واجب أو فعل محظور إلا وتنزيه أبي بكر وعمر أولى بكثير ، ولا يمكن أن تقوم شبهة [97] بتركهما واجبا أو تعديهما حدا ، إلا والشبهة [98] التي تقوم في علي وفاطمة أقوى وأكبر [99] ، فطلب الطالب مدح علي وفاطمة - رضي الله عنهما - إما بسلامتهما من الذنوب ، وإما بغفران الله لهما ، مع القدح في أبي بكر وعمر بإقامة الذنب والمنع من المغفرة - من أعظم الجهل والظلم ، وهو أجهل وأظلم ممن يريد مثل ذلك في علي ومعاوية - رضي الله عنهما - إذا أراد مدح معاوية - رضي الله عنه - ، والقدح في علي - رضي الله عنه - .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية