الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " إنه أمر أسامة - رضي الله عنه - على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر " .

                  فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث ، فإن أبا بكر لم يكن في [ ذلك ] ذلك : [1] الجيش ، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخلفه في الصلاة في حين [2] . مرض إلى أن مات ، وأسامة قد روي أنه قد عقد له الراية قبل مرضه ، ثم لما مرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ، فصلى بهم إلى أن مات النبي - صلى الله عليه وسلم -

                  [3] ، فلو قدر أنه أمر بالخروج [ ص: 277 ] مع أسامة قبل المرض لكان أمره له بالصلاة تلك المدة ، مع إذنه لأسامة أن يسافر في مرضه ، موجبا لنسخ إمرة أسامة عنه ، فكيف إذا لم يؤمر عليه أسامة بحال ؟ .

                  وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن عادته في سراياه [4] ، [ بل ] ولا [ في ] مغازيه [5] أن يعين كل من يخرج معه في الغزو بأسمائهم ، ولكن يندب الناس ندبا عاما مطلقا ، فتارة يعلمون منه أنه لم يأمر كل أحد بالخروج معه ولكن ندبهم إلى ذلك ، كما في غزوة [ ص: 278 ] الغابة [6] ، وتارة يأمر أناسا [7] بصفة ، كما أمر في غزوة [8] بدر أن يخرج من حضر ظهره ، فلم يخرج معه كثير من المسلمين ، وكما [9] أمر في غزوة السويق بعد أحد أن لا يخرج معه إلا من شهد أحدا ، وتارة يستنفرهم نفيرا [10] عاما ، ولا يأذن لأحد في التخلف ، كما في غزوة تبوك .

                  وكذلك كانت سنة خلفائه [ من ] [11] بعده ، وكان أبو بكر لما أمر الأمراء إلى الشام وغيرها يندب [12] الناس إلى الخروج معهم [13] ، فإذا خرج مع الأمير من رأى حصول المقصود بهم سيره .

                  والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسل إلى مؤتة السرية التي أرسلها وقال : " أميركم زيد ، فإن قتل فجعفر ، فإن قتل فعبد الله بن رواحة " [14] لم [ ص: 279 ] يعين كل من خرج معهم فلان وفلان ، ولم تكن الصحابة مكتوبين عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في ديوان ، ولا يطوف نقباء يخرجونهم بأسمائهم وأعيانهم ، بل كان [15] يؤمر الأمير ، فإذا اجتمع معه من يحصل بهم المقصود أرسلهم وصار أميرا عليهم ، كما أنه في الحج لما أمر أبا بكر لم يعين من يحج معه ، لكن من حج معه كان أميرا عليه ( 22 ) : [16] وأردفه بعلي ، وأخبر أنه مأمور [17] ، وأن أبا بكر أمير عليه . ولما أمر أسامة بن زيد [18] بعد مقتل أبيه ، فأرسله [19] إلى ناحية العدو الذين قتلوا أباه ، لما رآه في ذلك من المصلحة ، ندب الناس [ معه ] [20] فانتدب معه من رغب في الغزو ، وروي أن عمر كان ممن انتدب معه ، لا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عين عمر ولا غير عمر [21] للخروج معه ، لكن من خرج معه في الغزاة كان أسامة أميرا عليه ، كما أنه لما استخلف عتاب بن أسيد على مكة ، [ ص: 280 ] كان من أقام بمكة فعتاب أمير عليه ، وكذلك لما أرسل خالد بن الوليد وغيره من أمراء السرايا ، كان من خرج مع الأمير ، فالأمير أمير عليه باختياره الخروج معه ، لا بأن [22] النبي - صلى الله عليه وسلم - عين للخروج مع الأمير كل من معه ومن هذا لم يكن من عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل ولا من عادة أبي بكر .

                  وهذا [23] كما أنه إذا كان إمام راتب في حياته يصلي بقوم ، فمن صلى خلفه كان ذلك الإمام إماما له يتقدم عليه ، وإن كان المأموم أفضل منه .

                  وفي صحيح مسلم [ وغيره ] [24] عن أبي مسعود البدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ، ولا يؤمن الرجل [ الرجل ] [25] في سلطانه ; ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه " [26] فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتقدم على الإمام ذي السلطان [27] وإن كان المأموم أفضل منه .

                  [ ص: 281 ] ولهذا قال العلماء : إن الإمام الراتب لا يقدم عليه من هو أفضل منه .

                  وكانت السنة أولا أن الأمير هو الذي يصلي بالناس . وتنازع الفقهاء فيما إذا اجتمع صاحب البيت والمتولي : أيهما يقدم ؟ على قولين : كما تنازعوا في صلاة الجنازة هل يقدم الوالي أو الولي [28] . وأكثرهم قدم [29] الوالي .

                  ولهذا لما مات الحسن بن علي قدم أخوه الحسين [ بن علي ] أمير [30] . المدينة للصلاة عليه ، وقال : لولا أنها السنة لما [31] قدمتك . والحسين أفضل من ذلك الأمير الذي أمره أن يصلي على أخيه ، لكن لما كان هو الأمير ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن الرجل [ الرجل ] [32] في سلطانه " قدمه لذلك .

                  وكان يقدم الأمير على من معه في المغازي ، كتقدمه في الصلاة وفي الحج [33] ; لأنهم صلوا خلفه باختيارهم ، وحجوا معه ، مع أنه [34] قد تتعين صلاتهم خلفه وحجهم معه إذا لم يكن للحج إلا أمير واحد وللصلاة إلا إمام واحد ، وكذلك من أراد الغزو وليس للغزو إلا أمير واحد ( 8 \ 8 ) : [35] خرج معه ، ولكن في الغزو لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر جميع [ ص: 282 ] الناس بالخروج في [36] السرايا ، ولا يعين من يخرج بأسمائهم وأعيانهم ، بل يندبهم فيخرج من يختار الغزو . ولهذا كان الخارجون يفضلون [37] على القاعدين ، ولو كان الخروج معينا لكان كل منهم مطيعا لأمره . بل قال تعالى : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) [ سورة النساء : 95 ، 96 ] .

                  فأسامة - رضي الله عنه - كان أميرا من أمراء السرايا ، وأمراء السرايا لم يكونوا يسمون خلفاء ، فإنهم لم يخلفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته ، ولا خلفوه في مغيبه على شيء كان يباشره ، بل هو أنشأ لهم سفرا وعملا استعمل عليه [38] رجلا منهم فهو متول عليه [39] ابتداء لا خلافة عمن كان يعمله قبله . وقد يسمى العمل على الأمصار والقرى خلافة ، ويسمى العمل مخلافا . وهذه أمور لفظية [40] تطلق بحسب اللغة والاستعمال .

                  وقوله [41] : " ومات ولم يعزله " .

                  [ ص: 283 ] فأبو بكر أنفذ جيش أسامة - رضي الله عنه - بعد أن أشار الناس عليه برده خوفا من العدو . وقال : والله لا أحل راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه كان يملك عزله ، كما كان يملك ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه قام مقامه ، فيعمل ما هو أصلح للمسلمين .

                  وأما ما ذكره من غضب أسامة لما تولى أبو بكر ، فمن الأكاذيب السمجة ، فإن محبة أسامة - رضي الله عنه - لأبي بكر وطاعته له أشهر وأعرف من أن تنكر [42] ، وأسامة من أبعد الناس عن الفرقة والاختلاف ، فإنه لم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية واعتزل الفتنة . وأسامة لم يكن من قريش ، ولا ممن يصلح للخلافة ، ولا يخطر بقلبه أن يتولاها ، فأي فائدة [ له ] [43] في أن يقول مثل [44] هذا القول لأي من تولى الأمر ، مع علمه أنه لا يتولى الأمر أحد إلا كان خليفة عليه ، ولو قدر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره على أبي بكر ثم مات ، فبموته صار الأمر إلى الخليفة من بعده ، وإليه الأمر في إنفاذ الجيش أو حبسه ، وفي تأمير أسامة أو عزله [45] وفي سائر النسخ : وعزله . . وإذا قال : [ أمرني عليك ] [46] فمن [47] وفي سائر النسخ : من . استخلفك علي ؟ قال : من استخلفني على جميع المسلمين ، وعلى من هو أفضل منك . وإذا قال : أنا أمرني عليك [48] . قال : أمرك علي قبل أن أستخلف ، فبعد أن صرت خليفة [ ص: 284 ] صرت أنا الأمير عليك [49] ، كما لو قدر أن أبا بكر أمر على عمر أحدا ثم مات أبو بكر وولي عمر ، صار عمر أميرا على من كان أميرا عليه . وكذلك لو أمر عمر على عثمان أو علي أو غيرهما أحدا [50] ، ثم لما مات عمر صار هو الخليفة ، فإنه يصير أميرا على من كان هو أميرا عليه [51] ، ولو قدر أن عليا كان أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر عليه غيره ، كما أمر عليه أبا بكر لما أرسله [ ليحج بالناس ] [52] سنة تسع ، ولحقه [53] علي ، فقال لعلي : أنت أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور . فكان أبو بكر أميرا على علي ، فلو قدر أن عليا هو الخليفة ، لكان يصلح أميرا على أبي بكر .

                  ومثل هذا لا ينكره إلا جاهل . وأسامة أعقل وأتقى وأعلم من أن يتكلم بمثل هذا الهذيان لمثل أبي بكر .

                  وأعجب من هذا [54] قول هؤلاء المفترين : إنه مشى هو وعمر إليه حتى استرضاه ، مع قولهم : إنهما قهرا عليا وبني هاشم وبني عبد مناف ، ولم يسترضياهم [55] ، وهم أعز وأقوى [ وأكثر [56] ] وأشرف من أسامة - رضي الله عنه - فأي حاجة بمن قهروا بني هاشم وبني أمية وسائر بني [ ص: 285 ] عبد مناف ، وبطون قريش والأنصار والعرب ، إلى أن يسترضوا أسامة بن زيد ، وهو من أضعف رعيتهم ، ليس له قبيلة ولا عشيرة ، ولا [ معه ] [57] مال ولا رجال ، ولولا حب النبي - صلى الله عليه وسلم - إياه [58] وتقديمه له لم يكن إلا كأمثاله من الضعفاء ؟ .

                  فإن قلتم : إنهما استرضياه [59] لحب النبي - صلى الله عليه وسلم - له ، فأنتم تقولون : إنهم بدلوا عهده ، وظلموا وصيه وغصبوه [60] ، فمن عصى الأمر الصحيح ، وبدل العهد البين ، وظلم واعتدى وقهر ، ولم يلتفت إلى طاعة الله ورسوله ، ولم يرقب في آل محمد إلا ولا ذمة ، يراعي مثل أسامة بن زيد ويسترضيه ؟ وهو قد رد شهادة أم أيمن ولم يسترضها ، وأغضب فاطمة و آذاها ، وهي أحق بالاسترضاء . فمن يفعل [61] مثل هذا أي حاجة به [62] إلى استرضاء أسامة بن زيد ؟ وإنما يسترضى الشخص للدين أو للدنيا ، فإذا لم يكن عندهم دين يحملهم على استرضاء من يجب استرضاؤه ، ولا هم محتاجون في الدنيا إليه ، فأي داع يدعوهم إلى استرضائه ؟ ولا هم محتاجون في الدنيا إليه ، فأي داع يدعوهم إلى استرضائه ؟ والرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضا [ كثيرا ] [63] بينا إذ هم [64] في قول مختلف ، يؤفك عنه من أفك .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية