[ ص: 290 ] ويقال : رابعا : كل من الحديثين يعلم بالدليل أنه كذب ، لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإنه يقال : ما المعنى بكون [1] أو غيره علي [2] فاروق الأمة يفرق بين الحق والباطل ؟ إن عنى بذلك أنه يميز بين أهل الحق وأهل الباطل [3] ، فيميز [ بين ] [4] المؤمنين والمنافقين ، فهذا أمر لا يقدر عليه أحد من البشر : لا نبي ولا غيره . وقد قال تعالى لنبيه : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ) [ سورة التوبة : 101 ] ، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم عين كل منافق في مدينته وفيما حولها ، فكيف يعلم [5] ذلك غيره ؟ .
وإن قيل : إنه يذكر صفات أهل الحق وأهل الباطل ، فالقرآن قد [6] بين ذلك غاية البيان ، وهو الفرقان الذي فرق الله فيه بين [7] . الحق والباطل بلا ريب .
وإن أريد بذلك أن من قاتل معه كان على الحق ومن قاتله كان على الباطل ( 88 ) : [8] .
فيقال : هذا لو كان صحيحا لم يكن فيه إلا [9] التمييز بين تلك الطائفة [ ص: 291 ] المعينة . وحينئذ فأبو بكر وعمر - رضي الله عنهم - أولى بذلك لأنهم قاتلوا بالمؤمنين أهل الحق الكفار وعثمان [10] أهل الباطل ، فكان التمييز الذي حصل بفعلهم أكمل وأفضل ; فإنه لا يشك عاقل أن الذين قاتلهم الثلاثة كانوا أولى بالباطل ممن قاتلهم [11] علي ، وكلما كان العدو أعظم باطلا كان عدوه أولى بالحق .
ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو [ من ] قتله نبي [12] ، وكان المشركون الذين باشروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب والمعاداة ، كأبي لهب وأبي جهل ، شرا من غيرهم . فإذا كان من قاتله [13] الثلاثة أعظم باطلا ، كان الذين قاتلوهم أعظم حقا ، فيكونوا أولى بالفرقان بهذا الاعتبار .
وإن قيل : إنه فاروق ; لأن محبته هي المفرقة بين أهل الحق والباطل .
قيل : أولا : هذا ليس من فعله حتى يكون هو به فاروقا .
وقيل : ثانيا : بل محبة [14] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم تفريقا بين أهل الحق والباطل باتفاق المسلمين [15] .
وقيل : ثالثا : لو عارض هذا [16] معارض فجعل محبة هي الفارقة [ ص: 292 ] بين الحق والباطل لم تكن عثمان [17] دعواه دون دعوى ذلك في ، مع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله لما ذكر الفتنة : " علي [18] . وأصحابه على الحق " هذا يومئذ [19] . وأما إذا جعل ذلك في أبي بكر ، فلا يخفى أنه أظهر في المقابلة . ومن كان قوله مجرد دعوى أمكن مقابلته بمثله وعمر [20] .
وإن أريد بذلك مطلق دعوى المحبة ، دخل في ذلك الغالية كالمدعين لإلهيته ونبوته ، فيكون هؤلاء أهل حق [21] وهذا كفر باتفاق المسلمين .
وإن أريد بذلك المحبة المطلقة [22] فالشأن فيها ، فأهل [23] السنة يقولون : نحن أحق بها من الشيعة ، وذلك أن المحبة المتضمنة للغلو هي [ ص: 293 ] كمحبة اليهود لموسى ، والنصارى للمسيح ، وهي محبة باطلة . وذلك أن المحبة الصحيحة [24] أن يحب العبد ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر ، فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبي من الأنبياء ، أو أنه من السابقين الأولين فأحبه ، [25] قد أحب ما لا حقيقة له ; لأنه أحب ذلك الشخص بناء على أنه موصوف بتلك الصفة ، وهي باطلة ، فقد أحب معدوما لا موجودا ، كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمة المال والجمال والدين والحسب فأحبها ، ثم تبين أنها دون ما ظنه بكثير ، فلا ريب أن حبه ينقص بحسب نقص اعتقاده ، إذ الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها .
فاليهودي إذا أحب [26] موسى بناء على أنه قال : تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض ، وأنه نهى عن اتباع المسيح [27] ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن موسى كذلك ، فإذا تبين له [28] حقيقة موسى [ - صلى الله عليه وسلم - ] [29] يوم القيامة علم أنه لم يكن يحب [30] موسى على ما هو عليه ، وإنما أحب موصوفا بصفات لا وجود لها ، فكانت محبته [31] [ ص: 294 ] باطلة ، فلم يكن مع موسى المبشر بعيسى المسيح [32] ومحمد .
وقد ثبت [33] في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " المرء مع من أحب [34] " . واليهودي لم يحب إلا ما لا وجود له في الخارج ، فلا يكون مع موسى المبشر بعيسى [35] . ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يحب موسى هذا . والحب والإرادة ونحو ذلك يتبع العلم والاعتقاد ، فهو فرع الشعور [36] ، فمن اعتقد باطلا فأحبه ، كان محبا لذلك الباطل ، وكانت محبته باطلة فلم تنفعه ، وهكذا من [37] اعتقد في بشر الإلهية فأحبه لذلك ، كمن اعتقد إلهية فرعون ونحوه [38] ، أو أئمة الإسماعيلية ، أو اعتقد الإلهية في بعض الشيوخ ، أو بعض أهل البيت ، أو في [39] بعض الأنبياء أو الملائكة ، كالنصارى ونحوهم [40] ، ومن عرف الحق فأحبه ، كان حبه لذلك الحق فكانت محبته من الحق فنفعته [41] .
[ ص: 295 ] قال الله تعالى : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) [ سورة محمد : 1 - 2 ] . وهكذا النصراني [42] مع المسيح : إذا [43] أحبه معتقدا أنه إله - وكان عبدا - كان قد أحب ما لا حقيقة له ، فإذا تبين له أن المسيح عبد رسول [44] لم يكن قد أحبه ، فلا يكون معه .
وهكذا من أحب الصحابة [ والتابعين ] [45] والصالحين معتقدا فيهم الباطل ، كانت محبته لذلك الباطل باطلة . الرافضة لعلي - رضي الله عنه - من هذا الباب ; فإنهم يحبون ما لم يوجد ، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته ، الذي لا إمام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هو ، الذي كان يعتقد أن ومحبة [46] أبا بكر - رضي الله عنهما - ظالمان معتديان أو كافران وعمر [47] ، فإذا تبين لهم يوم القيامة أن لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء ، وإنما غايته أن يكون قريبا من أحدهم عليا [48] ، وإنه كان مقرا بإمامتهم وفضلهم ، ولم يكن معصوما لا هو ولا هم [49] ، ولا كان منصوصا على [ ص: 296 ] إمامته ، تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون ، بل هم من أعظم الناس بغضا عليا - رضي الله عنه - في الحقيقة ، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في لعلي أكمل منها في غيره : من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم ، فإن علي - رضي الله عنه - كان يفضلهم ويقر بإمامتهم . فتبين أنهم مبغضون عليا لعلي [50] قطعا .
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه في صحيحه مسلم - رضي الله عنه - أنه قال : إنه لعهد علي [51] النبي الأمي إلي أنه [52] " لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " عن [53] إن كان هذا محفوظا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه ، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى [54] ، بل الرافضة تبغض نعوت وصفاته ، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت علي موسى وعيسى ، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ( 55 ) : [55] وكانا مقرين بها [56] [ صلى الله عليهم أجمعين ] [57] .
[ ص: 297 ] وهكذا كل من أحب شيخا على أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر ، كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه [58] يوم القيامة ، وأنه [59] يرزقه وينصره ويفرج عنه الكربات [60] ويجيبه في الضرورات ، ( * كمن اعتقد أن عنده خزائن الله ، أو أنه يعلم الغيب ، أو أنه ملك ، وهو ليس كذلك في نفس الأمر ، فقد * ) [61] أحب ما لا حقيقة له .
وقول - رضي الله عنه - في هذا الحديث : علي ، ليس من خصائصه ، بل قد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار " آية الإيمان حب [62] وقال : الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا [ ص: 298 ] منافق " لا يحب [63] . وفي [ الحديث ] [64] الصحيح حديث - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له ولأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين ، قال : فلا تجد مؤمنا إلا يحبني وأمي أبي هريرة [65]
وهذا مما يبين به الفرق بين هذا [ الحديث ] وبين الحديث [66] الذي روي [67] عن : " ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ببغضهم ابن عمر " عليا [68] فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب ; [ ص: 299 ] لأن النفاق له علامات كثيرة وأسباب متعددة غير علي ، فكيف لا يكون على النفاق علامة إلا بغض بغض ؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " علي [69] النفاق بغض الأنصار " وقال في الحديث الصحيح : " آية آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان [70] " .
وقد قال تعالى في القرآن في صفة المنافقين : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ) [ سورة التوبة : 58 ] ، ( ومنهم الذين يؤذون النبي ) [ سورة التوبة : 61 ] ، ( ومنهم من عاهد الله ) [ سورة التوبة : 75 ] ، ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) [ سورة التوبة : 49 ] ، ( فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) [ سورة التوبة : 124 ] .
وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة " براءة " وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه [71] .
بل لو قال : كنا نعرف المنافقين ببغض لكان متوجها علي [72] ، كما أنهم أيضا يعرفون ببغض الأنصار ، [ بل ] [73] وببغض أبي بكر وعمر ، [ ص: 300 ] وببغض غير هؤلاء ، فإن كل من أبغض ما يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه ويواليه ، وأنه كان [74] يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويواليه ، كان بغضه شعبة من شعب النفاق [75] ، والدليل يطرد ولا ينعكس . ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقا المبغضين [76] ; لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ، ولا كان فيهم أعظم حبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - منه ، فبغضه من أعظم [ آيات ] لأبي بكر [77] النفاق . ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه ، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم [78] .
وإن [79] قال قائل : فالرافضة [80] الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما يذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته فأبغضوه [81] لذلك .
قيل : إن كان هذا عذرا يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلا وتأويلا ، فكذلك المبغضون الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد ، أو ظالم فاسق ، فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام ، أو لما أحبه الله وأمر به من العدل ، ولاعتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق ، وأراد علوا في الأرض وفسادا ، [ ص: 301 ] وكان كفرعون ونحوه ; فإن هؤلاء وإن كانوا جهالا فليسوا بأجهل ممن اعتقد في لعلي أنه فرعون هذه الأمة ، فإن لم يكن بغض أولئك عمر لأبي بكر نفاقا لجهلهم وتأويلهم فكذلك بغض هؤلاء وعمر بطريق لعلي [82]
الأولى والأحرى ، وإن كان بغض نفاقا وإن كان المبغض جاهلا متأولا فبغض علي أبي بكر أولى أن يكون نفاقا حينئذ ، وإن كان المبغض جاهلا متأولا . وعمر