الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 290 ] ويقال : رابعا : كل من الحديثين يعلم بالدليل أنه كذب ، لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإنه يقال : ما المعنى بكون [1] علي أو غيره [2] فاروق الأمة يفرق بين الحق والباطل ؟ إن عنى بذلك أنه يميز بين أهل الحق وأهل الباطل [3] ، فيميز [ بين ] [4] المؤمنين والمنافقين ، فهذا أمر لا يقدر عليه أحد من البشر : لا نبي ولا غيره . وقد قال تعالى لنبيه : ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ) [ سورة التوبة : 101 ] ، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم عين كل منافق في مدينته وفيما حولها ، فكيف يعلم [5] ذلك غيره ؟ .

                  وإن قيل : إنه يذكر صفات أهل الحق وأهل الباطل ، فالقرآن قد [6] بين ذلك غاية البيان ، وهو الفرقان الذي فرق الله فيه بين [7] . الحق والباطل بلا ريب .

                  وإن أريد بذلك أن من قاتل معه كان على الحق ومن قاتله كان على الباطل ( 88 ) : [8] .

                  فيقال : هذا لو كان صحيحا لم يكن فيه إلا [9] التمييز بين تلك الطائفة [ ص: 291 ] المعينة . وحينئذ فأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - أولى بذلك لأنهم قاتلوا بالمؤمنين أهل الحق الكفار [10] أهل الباطل ، فكان التمييز الذي حصل بفعلهم أكمل وأفضل ; فإنه لا يشك عاقل أن الذين قاتلهم الثلاثة كانوا أولى بالباطل ممن قاتلهم [11] علي ، وكلما كان العدو أعظم باطلا كان عدوه أولى بالحق .

                  ولهذا كان أشد الناس عذابا يوم القيامة من قتل نبيا أو [ من ] قتله نبي [12] ، وكان المشركون الذين باشروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتكذيب والمعاداة ، كأبي لهب وأبي جهل ، شرا من غيرهم . فإذا كان من قاتله [13] الثلاثة أعظم باطلا ، كان الذين قاتلوهم أعظم حقا ، فيكونوا أولى بالفرقان بهذا الاعتبار .

                  وإن قيل : إنه فاروق ; لأن محبته هي المفرقة بين أهل الحق والباطل .

                  قيل : أولا : هذا ليس من فعله حتى يكون هو به فاروقا .

                  وقيل : ثانيا : بل محبة [14] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم تفريقا بين أهل الحق والباطل باتفاق المسلمين [15] .

                  وقيل : ثالثا : لو عارض هذا [16] معارض فجعل محبة عثمان هي الفارقة [ ص: 292 ] بين الحق والباطل لم تكن [17] دعواه دون دعوى ذلك في علي ، مع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله لما ذكر الفتنة : " هذا يومئذ [18] . وأصحابه على الحق " [19] . وأما إذا جعل ذلك في أبي بكر وعمر ، فلا يخفى أنه أظهر في المقابلة . ومن كان قوله مجرد دعوى أمكن مقابلته بمثله [20] .

                  وإن أريد بذلك مطلق دعوى المحبة ، دخل في ذلك الغالية كالمدعين لإلهيته ونبوته ، فيكون هؤلاء أهل حق [21] وهذا كفر باتفاق المسلمين .

                  وإن أريد بذلك المحبة المطلقة [22] فالشأن فيها ، فأهل [23] السنة يقولون : نحن أحق بها من الشيعة ، وذلك أن المحبة المتضمنة للغلو هي [ ص: 293 ] كمحبة اليهود لموسى ، والنصارى للمسيح ، وهي محبة باطلة . وذلك أن المحبة الصحيحة [24] أن يحب العبد ذلك المحبوب على ما هو عليه في نفس الأمر ، فلو اعتقد رجل في بعض الصالحين أنه نبي من الأنبياء ، أو أنه من السابقين الأولين فأحبه ، [25] قد أحب ما لا حقيقة له ; لأنه أحب ذلك الشخص بناء على أنه موصوف بتلك الصفة ، وهي باطلة ، فقد أحب معدوما لا موجودا ، كمن تزوج امرأة توهم أنها عظيمة المال والجمال والدين والحسب فأحبها ، ثم تبين أنها دون ما ظنه بكثير ، فلا ريب أن حبه ينقص بحسب نقص اعتقاده ، إذ الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها .

                  فاليهودي إذا أحب [26] موسى بناء على أنه قال : تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض ، وأنه نهى عن اتباع المسيح [27] ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن موسى كذلك ، فإذا تبين له [28] حقيقة موسى [ - صلى الله عليه وسلم - ] [29] يوم القيامة علم أنه لم يكن يحب [30] موسى على ما هو عليه ، وإنما أحب موصوفا بصفات لا وجود لها ، فكانت محبته [31] [ ص: 294 ] باطلة ، فلم يكن مع موسى المبشر بعيسى المسيح [32] ومحمد .

                  وقد ثبت [33] في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " المرء مع من أحب [34] " . واليهودي لم يحب إلا ما لا وجود له في الخارج ، فلا يكون مع موسى المبشر بعيسى [35] . ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يحب موسى هذا . والحب والإرادة ونحو ذلك يتبع العلم والاعتقاد ، فهو فرع الشعور [36] ، فمن اعتقد باطلا فأحبه ، كان محبا لذلك الباطل ، وكانت محبته باطلة فلم تنفعه ، وهكذا من [37] اعتقد في بشر الإلهية فأحبه لذلك ، كمن اعتقد إلهية فرعون ونحوه [38] ، أو أئمة الإسماعيلية ، أو اعتقد الإلهية في بعض الشيوخ ، أو بعض أهل البيت ، أو في [39] بعض الأنبياء أو الملائكة ، كالنصارى ونحوهم [40] ، ومن عرف الحق فأحبه ، كان حبه لذلك الحق فكانت محبته من الحق فنفعته [41] .

                  [ ص: 295 ] قال الله تعالى : ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ) [ سورة محمد : 1 - 2 ] . وهكذا النصراني [42] مع المسيح : إذا [43] أحبه معتقدا أنه إله - وكان عبدا - كان قد أحب ما لا حقيقة له ، فإذا تبين له أن المسيح عبد رسول [44] لم يكن قد أحبه ، فلا يكون معه .

                  وهكذا من أحب الصحابة [ والتابعين ] [45] والصالحين معتقدا فيهم الباطل ، كانت محبته لذلك الباطل باطلة . ومحبة الرافضة لعلي - رضي الله عنه - من هذا الباب ; فإنهم يحبون ما لم يوجد ، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته ، الذي لا إمام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هو ، الذي كان يعتقد أن [46] أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ظالمان معتديان أو كافران [47] ، فإذا تبين لهم يوم القيامة أن عليا لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء ، وإنما غايته أن يكون قريبا من أحدهم [48] ، وإنه كان مقرا بإمامتهم وفضلهم ، ولم يكن معصوما لا هو ولا هم [49] ، ولا كان منصوصا على [ ص: 296 ] إمامته ، تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون عليا ، بل هم من أعظم الناس بغضا لعلي - رضي الله عنه - في الحقيقة ، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في علي أكمل منها في غيره : من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم ، فإن عليا - رضي الله عنه - كان يفضلهم ويقر بإمامتهم . فتبين أنهم مبغضون لعلي [50] قطعا .

                  وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إنه لعهد [51] النبي الأمي إلي أنه [52] " لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " [53] إن كان هذا محفوظا ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه ، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى [54] ، بل الرافضة تبغض نعوت علي وصفاته ، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت موسى وعيسى ، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ( 55 ) : [55] وكانا مقرين بها [56] [ صلى الله عليهم أجمعين ] [57] .

                  [ ص: 297 ] وهكذا كل من أحب شيخا على أنه موصوف بصفات ولم يكن كذلك في نفس الأمر ، كمن اعتقد في شيخ أنه يشفع في مريديه [58] يوم القيامة ، وأنه [59] يرزقه وينصره ويفرج عنه الكربات [60] ويجيبه في الضرورات ، ( * كمن اعتقد أن عنده خزائن الله ، أو أنه يعلم الغيب ، أو أنه ملك ، وهو ليس كذلك في نفس الأمر ، فقد * ) [61] أحب ما لا حقيقة له .

                  وقول علي - رضي الله عنه - في هذا الحديث : لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ، ليس من خصائصه ، بل قد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار " [62] وقال : لا يحب الأنصار إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا [ ص: 298 ] منافق " [63] . وفي [ الحديث ] [64] الصحيح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له ولأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين ، قال : فلا تجد مؤمنا إلا يحبني وأمي [65]

                  وهذا مما يبين به الفرق بين هذا [ الحديث ] وبين الحديث [66] الذي روي [67] عن ابن عمر : " ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ببغضهم عليا " [68] فإن هذا مما يعلم كل عالم أنه كذب ; [ ص: 299 ] لأن النفاق له علامات كثيرة وأسباب متعددة غير بغض علي ، فكيف لا يكون على النفاق علامة إلا بغض علي ؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " آية [69] النفاق بغض الأنصار " وقال في الحديث الصحيح : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان [70] " .

                  وقد قال تعالى في القرآن في صفة المنافقين : ( ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا ) [ سورة التوبة : 58 ] ، ( ومنهم الذين يؤذون النبي ) [ سورة التوبة : 61 ] ، ( ومنهم من عاهد الله ) [ سورة التوبة : 75 ] ، ( ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ) [ سورة التوبة : 49 ] ، ( فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ) [ سورة التوبة : 124 ] .

                  وذكر لهم سبحانه وتعالى في سورة " براءة " وغيرها من العلامات والصفات ما لا يتسع هذا الموضع لبسطه [71] .

                  بل لو قال : كنا نعرف المنافقين ببغض علي لكان متوجها [72] ، كما أنهم أيضا يعرفون ببغض الأنصار ، [ بل ] [73] وببغض أبي بكر وعمر ، [ ص: 300 ] وببغض غير هؤلاء ، فإن كل من أبغض ما يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه ويواليه ، وأنه كان [74] يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويواليه ، كان بغضه شعبة من شعب النفاق [75] ، والدليل يطرد ولا ينعكس . ولهذا كان أعظم الطوائف نفاقا المبغضين [76] لأبي بكر ; لأنه لم يكن في الصحابة أحب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ، ولا كان فيهم أعظم حبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - منه ، فبغضه من أعظم [ آيات ] [77] النفاق . ولهذا لا يوجد المنافقون في طائفة أعظم منها في مبغضيه ، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم [78] .

                  وإن [79] قال قائل : فالرافضة [80] الذين يبغضونه يظنون أنه كان عدوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما يذكر لهم من الأخبار التي تقتضي أنه كان يبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته فأبغضوه [81] لذلك .

                  قيل : إن كان هذا عذرا يمنع نفاق الذين يبغضونه جهلا وتأويلا ، فكذلك المبغضون لعلي الذين اعتقدوا أنه كافر مرتد ، أو ظالم فاسق ، فأبغضوه لبغضه لدين الإسلام ، أو لما أحبه الله وأمر به من العدل ، ولاعتقادهم أنه قتل المؤمنين بغير حق ، وأراد علوا في الأرض وفسادا ، [ ص: 301 ] وكان كفرعون ونحوه ; فإن هؤلاء وإن كانوا جهالا فليسوا بأجهل ممن اعتقد في عمر أنه فرعون هذه الأمة ، فإن لم يكن بغض أولئك لأبي بكر وعمر نفاقا لجهلهم وتأويلهم فكذلك بغض هؤلاء لعلي بطريق [82]

                  الأولى والأحرى ، وإن كان بغض علي نفاقا وإن كان المبغض جاهلا متأولا فبغض أبي بكر وعمر أولى أن يكون نفاقا حينئذ ، وإن كان المبغض جاهلا متأولا .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية