الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل . ر ، ه ، ص : الفصل السادس والعشرون .



                  قال الرافضي [1]

                  : " وأذاعت سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنك تقاتلين عليا وأنت ظالمة له [2]

                  ، ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ) [ سورة الأحزاب : 33 ] وخرجت

                  [3] في ملأ من الناس لتقاتل عليا على غير ذنب ، لأن المسلمين أجمعوا على قتل [ ص: 309 ] عثمان ، وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله ، وتقول : اقتلوا نعثلا [4] .

                  ، قتل الله نعثلا ; لما [5]

                  بلغها قتله فرحت بذلك ، ثم سألت : من تولى الخلافة ؟ فقالوا : علي فخرجت لقتاله [6]

                  على دم عثمان ، فأي ذنب كان لعلي على ذلك ؟ وكيف [7] .

                  استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع [8]

                  امرأة غيره وأخرجها من منزلها أو سافر بها [9]

                  كان أشد الناس عداوة له ، وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف [10]

                  من المسلمين ، وساعدوها على حرب أمير المؤمنين [11]

                  ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما طلبت حقها من أبي بكر ، ولا شخص واحد [ كلمه ] [12]

                  بكلمة واحدة ؟ " .

                  والجواب : أن يقال : أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله ، وقولهم حق وعدل لا يتناقض . وأما الرافضة وغيرهم [ ص: 310 ] من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبه - إن شاء الله تعالى - على بعضه ، وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة ، وكذلك أمهات المؤمنين : عائشة وغيرها ، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة [ بعد الأنبياء ، وأهل السنة يقولون : إن أهل الجنة ] [13] .

                  ليس من شرطهم سلامتهم عن [14]

                  الخطأ ، بل ولا عن الذنب [15]

                  ، بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيرا أو كبيرا ويتوب منه [16]

                  . وهذا متفق عليه بين المسلمين ، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب [17] .

                  الكبائر عند جماهيرهم ، بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد [18]

                  تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها ، وبالمصائب المكفرة وغير ذلك .

                  وإذا كان هذا أصلهم فيقولون : ما يذكر [19]

                  عن الصحابة من السيئات كثير منه كذب ، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه ، ولكن لم يعرف [20]

                  كثير من الناس وجه اجتهادهم ، وما قدر أنه كان فيه ذنب من الذنوب [ لهم ] [21]

                  فهو مغفور لهم : إما بتوبة ، وإما بحسنات ماحية ، وإما بمصائب مكفرة ، وإما بغير ذلك ; فإنه

                  [22] قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه : إنهم من أهل [ ص: 311 ] الجنة ، فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة ، وإذا لم يمت أحد منهم [23]

                  على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة . ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة ، ولو لم يعلم أن أولئك المعينين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور

                  [24] لا نعلم أنها توجب النار ، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يعلم أنهم يدخلون الجنة ، ليس [25]

                  لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك ، فكيف يجوز مثل [26]

                  ذلك في خيار المؤمنين [27]

                  ، والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد واحد [28]

                  [ منهم ] [29]

                  باطنا وظاهرا ، وحسناته وسيئاته واجتهاداته [30] - أمر يتعذر علينا معرفته ؟ ! فكان كلامنا في ذلك كلاما فيما لا نعلمه ، والكلام بلا علم حرام ، فلهذا كان الإمساك عما شجر بين الصحابة خيرا من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال ، إذ كان كثير من الخوض في ذلك - أو أكثره - كلاما بلا علم ، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوى ومعارضة الحق المعلوم ، فكيف إذا كان كلاما بهوى [31]

                  يطلب فيه دفع الحق المعلوم ؟ ! وقد قال النبي - صلى الله عليه [ ص: 312 ] وسلم - : " القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار " [32]

                  . فإذا كان هذا في قضاء بين اثنين في قليل المال أو كثيره ، فكيف بالقضاء [33]

                  بين الصحابة في أمور كثيرة ؟ .

                  فمن تكلم في هذا الباب بجهل أو بخلاف ما يعلم من الحق [34]

                  كان مستوجبا للوعيد ، ولو تكلم بحق لقصد [ اتباع ] [35]

                  الهوى لا لوجه الله تعالى ، أو يعارض به حقا آخر ، لكان [ أيضا ] [36]

                  مستوجبا للذم والعقاب . ومن علم ما دل عليه القرآن والسنة من الثناء على القوم ، ورضا الله عنهم ، واستحقاقهم الجنة ، وأنهم خير هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس - لم يعارض هذا المتيقن المعلوم بأمور مشتبهة : منها ما لا يعلم [37]

                  صحته ، ومنها ما يتبين كذبه ، ومنها ما لا يعلم [38]

                  كيف وقع ، ومنها ما يعلم [ ص: 313 ] عذر القوم فيه ، ومنها ما يعلم توبتهم منه ، ومنها ما يعلم أن لهم من الحسنات ما يغمره ، فمن سلك سبيل أهل السنة استقام قوله ، وكان من أهل الحق والاستقامة والاعتدال ، وإلا حصل في جهل وكذب [39]

                  وتناقض كحال هؤلاء الضلال .

                  وأما قوله : " وأذاعت سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فلا ريب أن الله تعالى يقول : ( وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) [ سورة التحريم : 3 ] .

                  وقد ثبت في الصحيح [ عن عمر ] [40]

                  أنهما

                  [41] عائشة وحفصة [42]

                  .

                  فيقال : أولا : هؤلاء يعمدون [43]

                  إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاص بينة لمن نصت [44]

                  عنه من المتقدمين [ يتأولون النصوص بأنواع التأويلات ، وأهل السنة يقولون : بل أصحاب الذنوب ] [45]

                  تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة .

                  [ ص: 314 ] وهذه الآية ليست [ بأولى ] [46] .

                  في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات ، فإن كان تأويل تلك [47]

                  سائغا كان تأويل هذه كذلك ، وإن كان تأويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية