الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ويقال : ثالثا : المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة [ ص: 315 ] من أهل بيته وغيرهم من الصحابة [1]

                  ، فإن عليا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة ، وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبا فقال : " إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليا ابنتهم ، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن [2]

                  ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم ، إنما فاطمة [3]

                  بضعة مني يريبني ما رابها ص : أرابها .

                  ويؤذيني ما آذاها
                  [4]

                  " فلا يظن بعلي - رضي الله عنه - أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط ، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه .

                  وكذلك لما صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين يوم الحديبية ، وقال لأصحابه : " انحروا واحلقوا رءوسكم " فلم يقم أحد ، فدخل مغضبا على أم سلمة ، فقالت : من أغضبك - أغضبه الله ؟ فقال : " ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع [5]

                  " فقالت : يا رسول الله ادع بهديك فانحره ، وأمر الحلاق فليحلق [6]

                  رأسك ، وأمر عليا أن يمحو اسمه . فقال : والله لا أمحوك . فأخذ الكتاب من يده ومحاه
                  [7]

                  " فمعلوم [8]

                  [ ص: 316 ] أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا قال القائل : هذا ذنب ، كان جوابه كجواب القائل : إن عائشة أذنبت في ذلك ، فمن الناس من يتأول ويقول : إنما تأخروا متأولين ، لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة : وآخر يقول : لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - بل تابوا من ذلك التأخير

                  [9] ورجعوا عنه ، مع أن حسناتهم تمحو مثل هذا الذنب ، وعلي داخل في هؤلاء - رضي الله عنهم - أجمعين .

                  وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها : " تقاتلين عليا وأنت ظالمة له " [10]

                  فهذا لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ، ولا له إسناد معروف ، وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة لم أجد هذا الحديث الموضوع .

                  ، بل هو كذب قطعا ، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال ، وإنما خرجت لقصد

                  [11] الإصلاح بين المسلمين
                  ، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها .

                  وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال ، فندم طلحة والزبير وعلي - رضي الله عنهم - أجمعين ، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في الاقتتال [12]

                  ، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم ، فإنه لما تراسل علي [ ص: 317 ] وطلحة والزبير ، وقصدوا الاتفاق على المصلحة ، وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة ، وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معينا عليه ، كما كان يحلف فيقول : والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله ، وهو الصادق البار في يمينه ، فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة ، فحملوا على عسكر طلحة والزبير ، فظن طلحة والزبير أن عليا حمل عليهم ، فحملوا [13]

                  دفعا عن أنفسهم ، فظن علي أنهم حملوا عليه ، فحمل دفعا عن نفسه ، فوقعت الفتنة بغير اختيارهم ، وعائشة - رضي الله عنها - راكبة : لا قاتلت ، ولا أمرت بالقتال [14]

                  . هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار [15]

                  .

                  وأما قوله [16] : " وخالفت أمر الله في قوله تعالى : ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) [ سورة الأحزاب : 33 ] فهي - رضي الله عنها - لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى . والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها ، كما لو خرجت للحج والعمرة ، أو خرجت مع زوجها في سفرة [17]

                  ، فإن هذه الآية قد [18]

                  نزلت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سافر بهن [ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ] بعد [ ص: 318 ] ذلك [19]

                  [ كما سافر ] [20]

                  في حجة الوداع بعائشة [ - رضي الله عنها - ] وغيرها [21]

                  ، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه ، وأعمرها من التنعيم . وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه [22]

                  الآية ، ولهذا كان [23]

                  أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يحججن كما كن يحججن معه

                  [24] خلافة عمر - رضي الله عنه - وغيره [25]

                  ، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف ، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزا فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين ، فتأولت في ذلك [26]

                  .

                  وهذا كما أن قول الله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ سورة النساء : 29 ] [ وقوله ] [27]

                  : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ سورة النساء : 29 ] يتضمن نهي المؤمنين عن قتل بعضهم [28] .

                  بعضا ، كما في قوله : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) [ سورة الحجرات : 111 ] وقوله : ( لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ) [ سورة النور : 12 ] .

                  [ ص: 319 ] وكذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا " [29]

                  وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " . قيل : يا رسول الله : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " كان حريصا على قتل صاحبه

                  [30] " .

                  فلو قال قائل : [ إن ] عليا [31]

                  ومن قاتله قد التقيا بسيفهما ، وقد استحلوا دماء المسلمين [32]

                  ، فيجب أن يلحقهم الوعيد .

                  لكان جوابه [33]

                  : أن الوعيد لا يتناول المجتهد المتأول وإن كان [ ص: 320 ] مخطئا ، فإن الله تعالى يقول في دعاء المؤمنين : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [ سورة البقرة : 286 ] قال [34]

                  : " قد فعلت [35]

                  " فقد عفي [36]

                  للمؤمنين [37] عن النسيان والخطأ ، والمجتهد المخطئ مغفور له خطؤه ، وإذا غفر خطأ هؤلاء في قتال المؤمنين ، فالمغفرة لعائشة لكونها لم تقر في بيتها إذ كانت مجتهدة أولى .

                  وأيضا فلو قال قائل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن المدينة تنفي خبثها وينصع طيبها [38]

                  " وقال : " لا يخرج أحد من المدينة رغبة [ ص: 321 ] عنها إلا أبدلها الله خيرا منه " أخرجه في الموطأ الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه في : الموطأ 2 \ 887 ( كتاب الجامع ، باب الدعاء للمدينة وأهلها ) . وفي التعليق : " قال أبو عمر : وصله معن بن عيسى وحده عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة " .

                  . [ كما في الصحيحين عن زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها طيبة ( يعني المدينة ) وإنها تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد " ، وفي لفظ : " تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " ] [39]

                  . وقال : إن عليا خرج عنها

                  [40] ولم يقم بها كما أقام الخلفاء قبله ، ولهذا لم تجتمع عليه الكلمة .

                  لكان الجواب : أن المجتهد إذا كان دون علي لم يتناوله الوعيد ، فعلي أولى أن لا يتناوله الوعيد لاجتهاده ، وبهذا يجاب عن خروج عائشة - رضي الله عنها - . وإذا كان المجتهد مخطئا فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة .

                  وأما قوله : " إنها [41]

                  خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليا على غير ذنب " .

                  فهذا أولا : كذب عليها . فإنها لم تخرج لقصد القتال ، ولا كان أيضا [ ص: 322 ] طلحة والزبير قصدهما قتال علي أ ، ب : القتال لعلي ، ولو قدر أنهم قصدوا [42]

                  القتال ، فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ) [ سورة الحجرات : 9 ، 10 ] فجعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال . وإذا كان هذا ثابتا لمن هو دون أولئك المؤمنين [43]

                  فهم به أولى وأحرى .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية