وأيضا فهم يقدحون في العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي تواتر إيمانه ، ويمدحون أبا طالب الذي مات كافرا باتفاق أهل العلم ، كما دلت عليه
[1] الأحاديث الصحيحة . ففي الصحيحين عن المسيب بن حزن قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة
[2] ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله " . فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 352 ] يعرضها عليه ويعود له [3] ، وفي رواية : ويعودان بتلك المقالة
[4] ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله تعالى : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) [ سورة التوبة : 113 ] وأنزل في أبي طالب ، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء )
[5] وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا ، وقال فيه : قال أبو طالب : لولا أن تعيرني قريش يقولون : إنما
[6] حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك . فأنزل الله تعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ) [7] \ 441 . .
وفي الصحيحين عن العباس بن عبد المطلب ، قال : قلت : يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء ، فإنه كان يحوطك وينصرك ويغضب لك ؟ فقال : " نعم هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار " [8] .
[ ص: 353 ] وفي حديث أبي سعيد لما ذكر عنده ، قال : " لعله تنفعه شفاعتي ، فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منهما دماغه " أخرجاه في الصحيحين
[9] .
وأيضا فإن الله لم يثن على أحد بمجرد نسبه ، بل إنما يثني عليه
[10] بإيمانه وتقواه ، كما قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ سورة الحجرات : 13 ] وإن كان : " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة : خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح
[11] . فالمعدن هو مظنة حصول المطلوب ، فإن لم يحصل وإلا كان المعدن الناقص الذي يحصل منه المطلوب خيرا منه .
[ وأيضا ]
[12] من تناقضهم أنهم يعظمون عائشة في هذا المقام طعنا في [ ص: 354 ] طلحة والزبير ، ولا يعلمون أن هذا إن كان متوجها ، فالطعن في علي بذلك أوجه ; فإن طلحة والزبير كانا معظمين عائشة ، موافقين لها ، مؤتمرين بأمرها ، وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها . فإن جاز لرافضي
[13] أن يقدح فيهما يقول
[14] : " بأي وجه تلقون
[15] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع
[16] امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها "
[17] ، مع أن ذلك إنما جعلها بمنزلة الملكة التي يأتمر
[18] بأمرها ويطيعها ، ولم يكن إخراجها لمظان الفاحشة - كان لناصبي
[19] أن يقول : بأي وجه يلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها ، وسقطت من هودجها ، وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها ؟ ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل وهتكها وسبائها
[20] وتسليط
[21] الأجانب على قهرها وإذلالها وسبيها وامتهانها - أعظم من إخراجها [ من منزلها ]
[22] بمنزلة الملكة العظيمة المبجلة
[23] التي لا يأتي [ ص: 355 ] إليها أحد إلا بإذنها ، ولا يهتك أحد سترها ، ولا ينظر في خدرها .
ولم يكن طلحة والزبير ولا غيرهما من الأجانب يحملونها ، بل كان في العسكر من محارمها ، مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها ، وخلوة ابن الزبير بها
[24] ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع . وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز بالكتاب والسنة والإجماع ، وهي لم تسافر إلا مع ذي محرم منها
[25] . وأما العسكر الذين قاتلوها ، فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب ، ولهذا دعت عائشة - رضي الله عنها - على من مد يده إليها وقالت : يد من هذه ؟ أحرقها الله بالنار . فقال : أي أخية
[26] في الدنيا قبل الآخرة . فقالت : في الدنيا قبل الآخرة . فأحرق بالنار بمصر
[27] .
ولو قال المشنع : أنتم تقولون : إن آل الحسين سبوا لما قتل الحسين ولم يفعل بهم إلا من جنس ما فعل بعائشة حيث استولي عليها ، وردت إلى بيتها ، وأعطيت نفقتها . وكذلك آل الحسين استولي عليهم ، وردوا إلى أهليهم ، وأعطوا نفقة
[28] ، فإن كان هذا سببا واستحلالا للحرمة النبوية ، فعائشة قد سبيت واستحلت حرمة رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 356 ] وسلم - . وهم يشنعون ويزعمون أن بعض أهل الشام طلب أن يسترق
[29] فاطمة بنت الحسين ، وأنها قالت : لا هالله
[30] حتى تكفر
[31] بديننا . وهذا إن كان وقع فالذين طلبوا من علي - رضي الله عنه - أن يسبي
[32] من قاتلهم من أهل الجمل وصفين ويغنموا أموالهم ، أعظم جرما من هؤلاء
[33] ، وكان في ذلك لو سبوا عائشة وغيرها .


