الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعلي ، ومفارقته لأبيه " .

                  فكذب بين . وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلا له أقل من ثلاث سنين ، وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيما لأبيه ، وبه كان يتشرف ، وكانت له بذلك حرمة عند الناس .

                  [ ص: 395 ] وأما قوله : " إن سبب قولهم لمعاوية : إنه خال المؤمنين دون محمد ، أن محمدا هذا كان يحب عليا ، ومعاوية كان يبغضه " .

                  فيقال : هذا كذب أيضا ; فإن [ عبد الله ] بن عمر [ كان ] أحق

                  [1] بهذا المعنى من هذا وهذا ، وهو لم يقاتل لا مع هذا ، ولا مع هذا ، وكان معظما لعلي ، محبا له ، يذكر فضائله ومناقبه ، وكان مبايعا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه ، وأخته أفضل من أخت معاوية ، وأبوه أفضل من أبي معاوية ، والناس أكثر محبة وتعظيما له من معاوية ومحمد ، ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين . فعلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره .

                  وأيضا فأهل السنة يحبون الذين لم يقاتلوا عليا أعظم مما يحبون من قاتله ، ويفضلون من لم يقاتله على من قاتله ، كسعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، ومحمد بن مسلمة [2] .

                  ، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - . فهؤلاء أفضل من الذين قاتلوا عليا عند أهل السنة . والحب لعلي وترك قتاله [3] .

                  خير بإجماع أهل السنة من بغضه وقتاله . وهم متفقون على وجوب موالاته ومحبته ، وهم من أشد الناس ذبا عنه ، وردا على من يطعن عليه من الخوارج وغيرهم من النواصب ، لكن لكل مقام مقال .

                  والرافضة لا يمكنهم أن يثبتوا وجوب موالاته كما يمكن أهل السنة . وأهل السنة متفقون على ذم الخوارج الذين هم أشد بغضا له وعداوة من غيرهم . وأهل السنة متفقون على وجوب قتالهم ، فكيف يفتري المفتري [ ص: 396 ] عليهم بأن قدح هذا لبغضه عليا وذم هذا لحبه عليا [4] .

                  ، مع أنه ليس من أهل السنة من يجعل بغض علي طاعة ولا حسنة ، ولا يأمر بذلك ، ولا من يجعل مجرد حبه سيئة ولا معصية ، ولا ينهى عن ذلك .

                  وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه ، وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق ، وهم ينكرون على من سبه ، وكارهون لذلك . وما جرى من التساب والتلاعن بين العسكرين ، من جنس ما جرى من القتال . وأهل السنة من أشد [5] .

                  الناس بغضا وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب ، بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدرا ، وأحق بالإمامة ، وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه وأخيه الذي كان خيرا منه ، وعلي أفضل ممن هو أفضل من معاوية - رضي الله عنه - ، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح ، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية ، وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم ، وعلي أفضل جمهور ن [6] .

                  الذين بايعوا تحت الشجرة ، [ بل ] [7] .

                  هو أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة ، فليس في أهل السنة من يقدم عليه [ أحدا ] [8] .

                  غير الثلاثة ، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان ، وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار .

                  [ ص: 397 ] وما في أهل السنة من يقول : إن طلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه ، بل غاية ما قد [9] .

                  يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى ، وهؤلاء أهل الشورى عندهم أفضل السابقين الأولين ، والسابقون [ الأولون ] [10] .

                  أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا ، وهم على أصح القولين الذين بايعوا تحت الشجرة عام الحديبية ، وقيل : من صلى [ إلى ] [11] .

                  القبلتين ، وليس بشيء .

                  وممن أسلم بعد الحديبية خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وشيبة الحجبي [12] " .

                  وغيرهم . وأما سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبو سفيان بن حرب ، وابناه يزيد ومعاوية ، وصفوان بن أمية ، وغيرهم ، فهؤلاء مسلمة الفتح . ومن الناس من يقول : إن معاوية - رضي الله عنه - أسلم قبل أبيه ، فيجعلونه من الصنف الأول .

                  وقد ثبت في الصحيح أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا خالد لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك [13] .

                  مد أحدهم ولا نصيفه
                  " [14] \ 21 .

                  فنهى خالدا ونحوه ، ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، أن [ ص: 398 ] يتعرضوا [15] .

                  للذين صحبوه قبل ذلك ، وهم الذين أنفقوا من من : ساقطة [16] .

                  قبل الفتح وقاتلوا ، وبين أن الواحد من هؤلاء لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه .

                  فإذا كان [ هذا ] نهيه [17] .

                  لخالد [ بن الوليد ] [18] ) .

                  وأمثاله من مسلمة الحديبية ، فكيف مسلمة [19] .

                  الفتح الذين لم يسلموا إلا بعد فتح مكة ؟ مع أن أولئك كانوا مهاجرين ; فإن خالدا وعمرا ونحوهما ممن أسلم بعد الحديبية ، وقبل فتح مكة ، وهاجر إلى المدينة ، هو [20] .

                  من المهاجرين . وأما الذين أسلموا بعد فتح مكة فلا هجرة لهم ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " رواه البخاري [21] .

                  .

                  ولهذا كان إذا أتي بالواحد من هؤلاء ليبايعه بايعه على الإسلام ولا يبايعه على الهجرة . ومن هؤلاء أكثر بني هاشم ، كعقيل بن أبي طالب ، [ ص: 399 ] وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب [22] .

                  ، وكذلك العباس ; فإنه أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطريق وهو ذاهب إلى مكة ، لم يصل إلى المدينة . وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، [ وهذا غير أبي سفيان بن حرب ] [23] .

                  ، وكان شاعرا يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأدركه في الطريق ، وكان ممن حسن إسلامه ، وكان هو والعباس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين [ لما انكشف الناس آخذين ببغلته ] [24] .

                  . فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة ، كما دل عليه الكتاب والسنة ، وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح عمن أسلم بعد الحديبية ، وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية ، وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين [25] .

                  ، وعلى أن عليا أفضل من جماهير هؤلاء - لم يقدم عليه أحد غير الثلاثة ، فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته بمعاوية ، أو تقديم معاوية عليه ؟ .

                  نعم مع معاوية طائفة كثيرة [26] .

                  من المروانية وغيرهم ، كالذين قاتلوا معه وأتباعهم بعدهم ، يقولون : إنه كان في قتاله على الحق مجتهدا مصيبا ، وأن عليا ومن معه كانوا إما ظالمين وإما مجتهدين [27] مخطئين . وقد صنف [ ص: 400 ] لهم في ذلك مصنفات مثل كتاب " المروانية " الذي صنفه الجاحظ [28] .

                  ، وطائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك كلها كذب ، ولهم [ في ذلك ] [29] .

                  حجج طويلة ليس هذا موضعها .

                  ولكن هؤلاء عند أهل السنة مخطئون في ذلك ، وإن كان خطأ الرافضة أعظم [ من خطئهم ] [30] .

                  . ولا يمكن الرافضة أن ترد [31] .

                  على هؤلاء بحجة صحيحة مع اعتقادهم مذهب الإمامية ، فإن حجج الإمامية متناقضة ، يحتجون بالحجج [32] .

                  التي ينقضونها في موضع آخر ، ويحتجون بالحجة العقلية أو السمعية مع دفعهم لما هو أعظم منها ، بخلاف أهل السنة فإن حججهم صحيحة مطردة ، كالمسلمين مع [ النصارى وغيرهم من ] [33] .

                  أهل الكتاب ، فيمكن لأهل [34] .

                  السنة الانتصار لعلي ممن يذمه [ ويسبه ] [35] .

                  أو يقول : إن الذين قاتلوه كانوا أولى بالحق منه ، كما يمكن المسلمين أن ينصروا المسيح [36] .

                  ممن كذبه من اليهود وغيرهم ، بخلاف النصارى [ ص: 401 ] فإنهم [37] .

                  لا يمكنهم نصر قولهم في المسيح بالحجج العلمية على من كذبه من اليهود وغيرهم .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية