الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) .

                  ومما ينبغي أن يعلم أن الأمة يقع فيها أمور بالتأويل

                  [1] في دمائها وأموالها وأعراضها ، كالقتال واللعن والتكفير . وقد ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أنه قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ، فصبحنا الحرقات من جهينة ، فأدركت رجلا فعلوته بالسيف ، [ ص: 453 ] فقال : لا إله إلا الله ، فطعنته فقتلته ، فوقع في نفسي من ذلك ، فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أقتلته بعدما قال : لا إله إلا الله ؟ " قال : قلت : يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح . قال : " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها [ خوفا من السلاح ]

                  [2] أم لا ؟ " فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ
                  "

                  [3] .

                  وفي الصحيحين عن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ، أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي فقطعها ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله . أفأقتله بعد أن قالها ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقتله " فقلت : يا رسول الله إنه قطعها ثم قال [ ذلك ]

                  [4] بعد أن قطعها ، أفأقتله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقتله ، فإنك إن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها
                  "

                  [5] .

                  فقد ثبت أن هؤلاء قتلوا قوما مسلمين لا

                  [6] يحل قتلهم ، ومع هذا فلم يقتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ضمن المقتول بقود ولا دية [ ص: 454 ] ولا كفارة ، لأن القاتل كان متأولا . وهذا قول أكثر العلماء ، كالشافعي وأحمد وغيرهما . ومن الناس من يقول : بل كانوا أسلموا ولم يهاجروا ، فثبتت في حقهم العصمة المؤثمة دون المضمنة ، بمنزلة نساء أهل الحرب وصبيانهم ، كما يقوله أبو حنيفة وبعض المالكية . ثم إن جماهير العلماء ، كمالك [ وأبي حنيفة ]

                  [7] وأحمد في ظاهر مذهبه ، والشافعي في أحد قوليه : يقولون : إن أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء من النفوس

                  [8] والأموال حال القتال ، ولم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء [9] .

                  كما قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

                  [10] متوافرون ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر ، أنزلوهم

                  [11] منزلة الجاهلية . يعني بذلك أن القاتل لم يكن يعتقد أنه فعل محرما

                  [12] . وإن قيل

                  [13] : إنه محرم في نفس الأمر ، فقد ثبت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتواترة واتفاق المسلمين أن الكافر الحربي إذا قتل [ ص: 455 ] مسلما أو أتلف ماله ثم أسلم ، لم يضمنه بقود [ ولا دية ]

                  [14] ولا كفارة ، مع أن قتله له كان من أعظم الكبائر ؛ لأنه كان متأولا ، وإن كان تأويله فاسدا .

                  وكذلك المرتدون الممتنعون إذا قتلوا بعض المسلمين ، لم يضمنوا دمه إذا عادوا إلى الإسلام عند أكثر العلماء ، كما هو قول

                  [15] أبي حنيفة ومالك وأحمد ، وإن كان من متأخري أصحابه من يحكيه قولا ، كأبي بكر عبد العزيز

                  [16] حيث قد نص أحمد على أن المرتد يضمن ما أتلفه بعد الردة .

                  فهذا النص في المرتد المقدور عليه ، وذاك في المحارب الممتنع ، كما يفرق بين الكافر الذمي

                  [17] والمحارب ، أو يكون في المسألة روايتان ، وللشافعي قولان ، وهذا هو الصواب ; فإن المرتدين الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة لم يضمنهم الصحابة بعد عودهم إلى الإسلام بما كانوا قتلوه من المسلمين وأتلفوه من أموالهم ؛ لأنهم كانوا متأولين .

                  فالبغاة المتأولون كذلك لم تضمنهم الصحابة - رضي الله عنهم - ، وإذا كان هذا

                  [18] في الدماء والأموال ، مع أن من أتلفها خطأ ضمنها بنص القرآن فكيف في الأعراض

                  [19] ؟ مثل لعن بعضهم بعضا ، وتكفير بعضهم بعضا .

                  وقد ثبت في الصحيحين من حديث الإفك ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي . والله ما علمت على [ ص: 456 ] أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا [ والله ]

                  [20] ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " . قال سعد بن معاذ : أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا الخزرج

                  [21] أمرتنا ففعلنا فيه أمرك . فقام

                  [22] سعد بن عبادة ، وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية ، فقال : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله . فقام أسيد بن حضير فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فاستب الحيان حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ، وكان سعد بن عبادة - رضي الله عنه - يريد الدفع عن عبد الله بن أبي المنافق ، [ فقال له أسيد بن حضير : إنك منافق ]


                  [23] ، وهذا كان تأويلا [ منه ]

                  [24] .

                  وكذلك ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لحاطب بن أبي بلتعة : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، لما كاتب المشركين بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، [ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ]

                  [25] : " إنه شهد بدرا ، وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
                  "

                  [26] .

                  [ ص: 457 ] وثبت في الصحيحين أن طائفة من المسلمين قالوا في مالك بن الدخشن : إنه منافق ، فأنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ولم يكفرهم .

                  فقد ثبت أن في الصحابة من قال عن بعض أمته : إنه منافق متأولا في ذلك ، ولم يكفر النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدا منهما [27] .

                  . وقد ثبت في الصحيح [28] .

                  أن فيهم من لعن عبد الله حمارا [29] لكثرة شربه [ ص: 458 ] الخمر ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله "

                  [30] ولم يعاقب اللاعن لتأويله .

                  والمتأول المخطيء مغفور له بالكتاب والسنة . قال الله تعالى في دعاء المؤمنين : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) وثبت في الصحيح

                  [31] أن الله عز وجل قال ; " قد فعلت " [32]

                  . وفي سنن ابن ماجه وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان " [33]

                  .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية