الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) .

                  إذا تبين هذا فيقال : قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضا ; فإنهم يعظمون الأمر على من قاتل عليا ، ويمدحون من قتل عثمان ، مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان أعظم من الذم والإثم لمن قاتل عليا ، فإن عثمان [ ص: 459 ] كان خليفة اجتمع الناس عليه ، ولم يقتل [1] .

                  1 مسلما ، وقد قاتلوه لينخلع من [2]

                  الأمر ، فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر علي في طلبه لطاعتهم [3]

                  له ، وصبر عثمان حتى قتل مظلوما شهيدا من غير أن يدفع عن نفسه ، وعلي بدأ بالقتال

                  [4] أصحاب معاوية ، ولم يكونوا يقاتلونه ، ولكن امتنعوا من بيعته .

                  فإن جاز قتال من امتنع عن بيعة الإمام الذي بايعه نصف المسلمين ، أو أكثرهم [ أو نحو ذلك ]

                  [5] ، فقتال من قاتل [6] وفي سائر النسخ : فيقال من قاتل .

                  وقتل الإمام الذي أجمع [7]

                  المسلمون على بيعته أولى بالجواز .

                  وإن قيل : إن عثمان فعل أشياء أنكروها .

                  قيل : تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله [8]

                  ، وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على علي أولى أن يبيح ترك مبايعته ; فإنهم إن ادعوا على عثمان نوعا من المحاباة لبني أمية فقد ادعوا [9]

                  على علي تحاملا عليهم وتركا لإنصافهم ، وأنه بادر بعزل معاوية ، ولم يكن ليستحق

                  [10] العزل ; فإن النبي [ ص: 460 ] - صلى الله عليه وسلم - ولى أباه أبا سفيان على نجران ، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمير عليها

                  [11] ، وكان كثير من أمراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأعمال من بني أمية ; فإنه استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية على صدقات مذحج وصنعاء اليمن ، ولم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستعمل عمرا على تيماء [ وخيبر وقرى عرينة ] [12]

                  وأبان بن سعيد بن العاص [ استعمله أيضا على البحرين برها وبحرها حين عزل العلاء بن الحضرمي ، فلم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسله قبل ذلك أميرا على سرايا منها سرية إلىنجد ]

                  [13] وولاه عمر - رضي الله عنه - ، ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته . [ وقد ثبت ] في الصحيح

                  [14] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم . وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم "

                  [15] .

                  [ ص: 461 ] قالوا : ومعاوية كانت رعيته تحبه وهو يحبهم [16]

                  ، ويصلون عليه وهو يصلي عليهم . [ وقد ثبت ] في الصحيح

                  [17] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم " [18]

                  . قال مالك بن يخامر : سمعت معاذا يقول : " وهم بالشام " قالوا : " وهؤلاء كانوا عسكر معاوية " .

                  وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة " [19] قال أحمد بن حنبل

                  [20] أهل [ ص: 462 ] الغرب هم أهل الشام . وقد بسطنا هذا في موضع آخر ، وهذا [ النص ]

                  [21] يتناول عسكر معاوية .

                  قالوا : ومعاوية أيضا

                  [22] كان خيرا من كثير ممن استنابه علي ، فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه في السياسة ، فإن عليا استناب زياد بن أبيه ، وقد أشاروا

                  [23] على علي بتولية معاوية . [ قالوا : يا أمير المؤمنين توليه شهرا واعزله دهرا ]

                  [24] . ولا ريب أن هذا كان هو المصلحة ، إما لاستحقاقه وإما لتأليفه

                  [25] واستعطافه ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من علي ، وولى أبا سفيان ، ومعاوية خير منه ، فولى من هو خير من علي من هو دون معاوية .

                  فإذا قيل : إن عليا كان مجتهدا في ذلك .

                  قيل : وعثمان كان مجتهدا فيما فعل . وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية [ أو إمارة ]

                  [26] أو مال ، من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض ، حتى ذل المؤمنون وعجزوا عن مقاومة الكفار ، حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم ؟ ولا ريب أنه لو لم يكن قتال ، بل كان معاوية مقيما على سياسة رعيته ، وعلي مقيما

                  [27] على سياسة رعيته ، لم يكن في ذلك [ ص: 463 ] من الشر أعظم

                  [28] مما حصل بالاقتتال ; فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام ، بل سفكت الدماء ، وقويت العداوة والبغضاء ، وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق ، وهي طائفة علي ، وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما [ كانت ]

                  [29] تلك تطلبه ابتداء .

                  ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته ، يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه

                  [30] . وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة ، بل كان الأمر مع عدم القتال

                  [31] خيرا وأصلح منه بعد القتال ، و [ كان ] علي وعسكره [ أكثر ] وأقوى

                  [32] ، ومعاوية وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته

                  [33] ومصالحته ، فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا لصاحبه ، فاجتهاد عثمان أن يكون مغفورا أولى وأحرى .

                  وأما معاوية وأعوانه فيقولون : إنما قاتلنا عليا قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا ; فإنه بدأنا

                  [34] بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه . فإذا قيل لهم : هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين . قالوا : ما نعلم أنه إمام تجب طاعته ؛ لأن ذلك عند الشيعة إنما يعلم بالنص ، ولم يبلغنا عن النبي - صلى الله عليه [ ص: 464 ] وسلم - نص بإمامته ووجوب طاعته . ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر ، فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق ، فإن هذا قد كتم وأخفي في زمن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فلم يجب أن يعلم معاوية وأصحابه مثل ذلك لو كان حقا ، فكيف إذا كان باطلا ؟ ! .

                  وأما قوله : " الخلافة ثلاثون سنة " ونحو ذلك . فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك ; إنما هي من نقل الخاصة [ لا سيما ]

                  [35] وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما . وإذا كان عبد الملك بن مروان خفي عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها - : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ، ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين "

                  [36] ونحو ذلك ، حتى هدم

                  [37] ما فعله ابن الزبير ، ثم لما بلغه ذلك قال : وددت أني وليته من ذلك ما تولاه . مع أن حديث عائشة - رضي الله عنها - [ ثابت ] صحيح متفق على [ صحته ] عند أهل العلم

                  [38] ، فلأن يخفى على معاوية وأصحابه قوله : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا " بطريق الأولى ، مع أن هذا في أول خلافة علي - رضي الله عنه - لا يدل على علي عينا ، وإنما علمت دلالته على ذلك لما مات - رضي الله عنه - ، مع أنه ليس نصا في إثبات خليفة معين .

                  [ ص: 465 ] ومن جوز خليفتين

                  [39] في وقت يقول : كلاهما خلافة نبوة ; فإن معاوية - رضي الله عنه - كان في أول خلافته محمودا عندهم أكثر مما كان في آخرها . وإن قيل : إن خلافة علي ثبتت بمبايعة أهل الشوكة ، كما ثبتت خلافة من كان قبله بذلك ، أوردوا على ذلك أن طلحة بايعه مكرها ، والذين بايعوه قاتلوه ، فلم تتفق

                  [40] أهل الشوكة على طاعته .

                  وأيضا فإنما تجب مبايعته كمبايعة من قبله إذا سار سيرة من قبله . وأولئك كانوا قادرين على دفع الظلم عمن يبايعهم ، وفاعلين لما يقدرون عليه من ذلك . وهؤلاء قالوا : إذا بايعناه كنا في ولايته مظلومين بولايته

                  [41] مع الظلم الذي تقدم لعثمان ، وهو لا ينصفنا إما لعجزه عن ذلك ، وإما تأويلا منه ، وإما لما ينسبه إليه آخرون منهم ; فإن قتلة عثمان وحلفاءهم أعداؤنا ، وهم كثيرون في عسكره ، وهو عاجز عن دفعهم ، بدليل ما جرى يوم الجمل ; فإنه لما طلب طلحة والزبير الانتصار من قتلة عثمان ، قامت قبائلهم فقاتلوهم

                  [42] .

                  ولهذا كان الإمساك عن مثل هذا هو المصلحة ، كما أشار به علي على طلحة والزبير ، واتفقوا على ذلك . ثم إن القتلة أحسوا باتفاق الأكابر ، فأثاروا الفتنة

                  [43] وبدأوا بالحملة على عسكر طلحة والزبير ، وقالوا لعلي : إنهم [ ص: 466 ] حملوا قبل ذلك ، فقاتل كل من هؤلاء وهؤلاء [ دفعا عن نفسه ] ، ولم يكن لعلي [44] ولا لطلحة والزبير غرض في القتال أصلا ، وإنما كان الشر

                  [45] من قتلة عثمان .

                  [ وإذا كان لا ينصفنا إما تأويلا منه وإما عجزا منه عن نصرتنا ، فليس علينا أن نبايع من نظلم بولايته لا لتأوليه ولا لعجزه ]

                  [46] . قالوا : والذين جوزوا قتالنا قالوا : إنا بغاة ، والبغي ظلم ، فإن كان مجرد الظلم مبيحا للقتال ، فلأن يكون مبيحا لترك المبايعة أولى وأحرى ، فإن القتال أعظم فسادا من ترك المبايعة بلا قتال .

                  وإن قيل : علي - رضي الله عنه - لم يكن متعمدا لظلمهم ، بل كان مجتهدا في العدل لهم وعليهم .

                  قالوا : وكذلك نحن لم نكن متعمدين للبغي ، بل مجتهدين في العدل له وعليه . وإذا كنا بغاة كنا بغاة للتأويل . والله تعالى لم يأمر بقتال الباغي ابتداء ، وليس مجرد البغي مبيحا للقتال ، بل قال تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) سورة الحجرات فأمر بالإصلاح عند الاقتتال ، ثم قال : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) وهذا بغي بعد الاقتتال ، فإنه بغي إحدى الطائفتين المقتتلتين لا بغي بدون الاقتتال ، فالبغي المجرد [ ص: 467 ] لا يبيح القتال ، مع أن الذي في الحديث أن عمارا تقتله [47]

                  الفئة الباغية ، قد تكون

                  [48] الفئة التي باشرت قتله أ ، ن ، ص ، و ، ه : الفئة هي التي باشرت قتله .

                  1 [ هم البغاة ]

                  [49] لكونهم قاتلوا لغير حاجة إلى القتال أو لغير ذلك ، وقد تكون غير بغاة قبل القتال ، لكن لما اقتتلتا بغيتا ، وحينئذ قتل عمارا الفئة الباغية . فليس في الحديث ما يدل على أن البغي كان منا قبل القتال ، ولما بغينا كان عسكر علي متخاذلا لم يقاتلنا . ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها - : ترك الناس العمل بهذه الآية .

                  وأما قوله : " إن معاوية قتل جمعا كثيرا من خيار الصحابة " .

                  فيقال : الذين قتلوا [ قتلوا ]

                  [50] من الطائفتين ; قتل هؤلاء من هؤلاء ، وهؤلاء من هؤلاء . وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليا ولا معاوية ، وكان علي ومعاوية - رضي الله عنهما - أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين ، لكن غلبا فيما وقع . والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء

                  [51] عن إطفاء نارها ، وكان في العسكرين مثل الأشتر النخعي ، وهاشم بن عتبة [ المرقال ]

                  [52] وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأبي الأعور السلمي ، ونحوهم من المحرضين على القتال : قوم ينتصرون لعثمان [ ص: 468 ] غاية الانتصار ، وقوم ينفرون عنه ، [ وقوم ينتصرون لعلي ، وقوم ينفرون عنه ]

                  [53] .

                  ثم قتال أصحاب معاوية معه لم يكن لخصوص معاوية ، بل كان لأسباب أخرى . وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم ، كما قال الزهري : " وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج

                  [54] أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر : أنزلوهم منزلة الجاهلية " .

                  وأما ما ذكره من لعن علي ، فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة ، وكان هؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم ، وهؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم . وقيل : إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى . والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان ، وهذا كله سواء كان ذنبا أو اجتهادا : مخطئا أو مصيبا ، فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك .

                  ثم من العجب أن الرافضة تنكر سب علي ، وهم يسبون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفرونهم ومن والاهم . ومعاوية - رضي الله عنه - وأصحابه ما كانوا يكفرون عليا ، وإنما يكفره الخوارج المارقون ، والرافضة شر منهم . فلو أنكرت الخوارج السب لكان تناقضا منها ، فكيف إذا أنكرته الرافضة ؟ ! .

                  ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة : لا علي ولا عثمان ولا غيرهما ، ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثما ممن سب عليا ، [ ص: 469 ] وإن كان متأولا فتأويله أفسد من تأويل من سب عليا ، وإن كان المتأول في سبهم ليس بمذموم لم يكن أصحاب معاوية مذمومين ، وإن كان مذموما كان ذم الشيعة الذين سبوا الثلاثة أعظم من سب الناصبة الذين سبوا عليا وحده . فعلى كل تقدير هؤلاء أبعد عن الحق .

                  وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه "

                  [55] .

                  وأما قوله : " إن معاوية سم الحسن " .

                  فهذا مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا نقل يجزم به . وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم . وقد رأينا في زماننا من يقال عنه : إنه سم ومات مسموما من الملوك وغيرهم

                  [56] ، ويختلف الناس في ذلك ، حتى في نفس الموضع الذي مات فيه ذلك الملك ، والقلعة التي مات فيها ، فتجد كلا منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر ، ويقول : هذا سمه فلان ، وهذا يقول : بل سمه غيره

                  [57] لأنه جرى كذا ، وهي واقعة في زمانك ، والذين كانوا في قلعته هم الذين يحدثونك .

                  والحسن - رضي الله عنه - قد نقل عنه

                  [58] أنه مات مسموما . وهذا مما يمكن [ ص: 470 ] أن يعلم ، فإن موت المسموم لا يخفى ، لكن يقال : إن امرأته سمته . ولا ريب أنه مات بالمدينة ومعاوية بالشام ، فغاية ما يظن الظان [ أن يقال ] :

                  [59] إن معاوية أرسل إليها وأمرها بذلك . وقد يقال : بل سمته امرأته

                  [60] لغرض آخر مما تفعله النساء ; فإنه كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة .

                  وقد قيل [61] : إن أباها الأشعث بن قيس أمرها بذلك

                  [62] ; فإنه كان يتهم بالانحراف في الباطن عن علي

                  [63] وابنه الحسن .

                  وإذا قيل : إن معاوية أمر أباها ، كان هذا ظنا محضا . والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

                  [64] " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " [65] .

                  وبالجملة فمثل هذا لا يحكم به في الشرع باتفاق المسلمين ، فلا يترتب [ ص: 471 ] عليه أمر ظاهر : لا مدح ولا ذم ، والله أعلم . * ثم إن الأشعث بن قيس مات سنة أربعين ، وقيل : سنة إحدى وأربعين ، ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين معاوية والحسن بن علي ، في العام الذي كان يسمى عام الجماعة ، وهو عام أحد وأربعين

                  [66] ، وكان الأشعث حما

                  [67] الحسن بن علي ، فلو كان شاهدا لكان يكون له ذكر في ذلك ، وإذا كان قد مات قبل الحسن بنحو عشر سنين ، فكيف يكون هو الذي أمر ابنته أن تسم الحسن ؟ [68]

                  والله سبحانه وتعالى أعلم * [69] بحقيقة الحال ، وهو يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون . فإن كان قد وقع شيء من ذلك فهو من باب قتال

                  [70] بعضهم بعضا [ كما تقدم ، وقتال المسلمين بعضهم بعضا ]

                  [71] بتأويل ، وسب بعضهم بعضا بتأويل ، وتكفير بعضهم بعضا بتأويل : باب عظيم ، ومن لم يعلم حقيقة الواجب فيه وإلا

                  [72] ضل .

                  [ ص: 472 ] وأما قوله : " وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه " .

                  فيقال : إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق . والحسين - رضي الله عنه - كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له

                  [73] بما كتبوا إليه ، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ، فلما قتلوا مسلما وغدروا به وبايعوا ابن زياد ، أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة ، فطلب

                  [74] أن يذهب إلى يزيد ، أو يذهب إلى الثغر ، أو يرجع إلى بلده ، فلم يمكنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر

                  [75] لهم ، فامتنع ، فقاتلوه حتى قتل شهيدا مظلوما - رضي الله عنه - ، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع على ذلك ، وظهر

                  [76] البكاء في داره ، ولم يسب له حريما أصلا ، بل أكرم أهل بيته ، وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم

                  [77] .

                  ولو قدر أن يزيد قتل الحسين لم يكن ذنب ابنه

                  [78] ذنبا له ; فإن الله تعالى يقول : (

                  [79] قصة معروفة ، لما حضه على [ ص: 473 ] طلب الخلافة ، وامتناع

                  [80] سعد من ذلك ، ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره .

                  ففي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد بن أبي وقاص في إبله ، فجاءه

                  [81] ابنه عمر ، فلما رآه سعد قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب . فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم ؟ فضرب سعد في صدره فقال : اسكت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي "


                  [82] .

                  ومحمد بن أبي بكر يقال : إنه أعان على قتل عثمان ، وكان أبوه أبو بكر - رضي الله عنه - من أشد الناس تعظيما لعثمان ، فهل روى أحد من أهل السنة قدحا في أبي بكر لأجل فعل ابنه

                  [83] .

                  وإذا قيل : إن معاوية - رضي الله عنه - استخلف يزيد ، وبسبب ولايته فعل هذا .

                  قيل : استخلافه إن كان جائزا لم يضره ما فعل ، وإن لم يكن جائزا فذاك ذنب مستقل ولو لم يقتل الحسين . وهو مع ذلك كان من أحرص الناس على إكرام الحسين - رضي الله عنه - وصيانة حرمته ، فضلا عن دمه

                  [84] ، فمع هذا القصد والاجتهاد لا يضاف إليه فعل أهل الفساد .

                  [ ص: 474 ] وأما قوله : " وكسر أبوه ثنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأكلت أمه كبد حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - " .

                  فلا ريب أن أبا سفيان بن حرب كان قائد المشركين يوم أحد ، وكسرت ذلك اليوم ثنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كسرها بعض المشركين . لكن لم يقل أحد : إن أبا سفيان باشر ذلك ، وإنما كسرها عتبة بن أبي وقاص

                  [85] ، وأخذت هند كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها .

                  وكان هذا قبل إسلامهم ، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرمها ، والإسلام يجب ما قبله ، وقد قال الله تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) سورة الأنفال .

                  وفي صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : [86] حضرنا

                  [87] [ ص: 475 ] عمرو بن العاص وهو في سياقة

                  [88] الموت ، فبكى طويلا ، وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول :

                  [89] ما يبكيك يا أبتاه ؟ أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ؟ أما بشرك بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه فقال :

                  [90] إن أفضل ما نعد

                  [91] شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إني قد كنت على أطباق ثلاث ، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله - عز وجل - الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه . قال : فقبضت يدي . فقال : " ما لك

                  [92] يا عمرو ؟ " قال : قلت : أريد أن أشترط ، قال : " تشترط بماذا ؟ "

                  [93] قلت : أن يغفر لي . قال :

                  [94] " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟
                  " وذكر الحديث

                  [95] .

                  وفي البخاري : لما أسلمت هند [ أم معاوية - رضي الله عنهما - ] قالت :

                  [96] [ ص: 476 ] والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك

                  [97] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية