( فصل ) .
إذا تبين هذا فيقال : قول الرافضة ، ويمدحون من قتل عليا عثمان ، مع أن الذم والإثم لمن قتل من أفسد الأقوال وأشدها تناقضا ; فإنهم يعظمون الأمر على من قاتل أعظم من الذم والإثم لمن قاتل عثمان ، فإن عليا [ ص: 459 ] كان خليفة اجتمع الناس عليه ، ولم يقتل عثمان [1] .
1 مسلما ، وقد قاتلوه لينخلع من [2]
الأمر ، فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر في طلبه لطاعتهم علي [3]
له ، وصبر حتى قتل مظلوما شهيدا من غير أن يدفع عن نفسه ، عثمان بدأ بالقتال وعلي
[4] أصحاب ، ولم يكونوا يقاتلونه ، ولكن امتنعوا من بيعته . معاوية
فإن جاز قتال من امتنع عن بيعة الإمام الذي بايعه نصف المسلمين ، أو أكثرهم [ أو نحو ذلك ]
[5] ، فقتال من قاتل [6] وفي سائر النسخ : فيقال من قاتل .
وقتل الإمام الذي أجمع [7]
المسلمون على بيعته أولى بالجواز .
وإن قيل : إن فعل أشياء أنكروها . عثمان
قيل : تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله [8]
، وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على أولى أن يبيح ترك مبايعته ; فإنهم إن ادعوا على علي نوعا من المحاباة عثمان لبني أمية فقد ادعوا [9]
على تحاملا عليهم وتركا لإنصافهم ، وأنه بادر بعزل علي ، ولم يكن ليستحق معاوية
[10] العزل ; فإن النبي [ ص: 460 ] - صلى الله عليه وسلم - ولى أباه على أبا سفيان نجران ، ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أمير عليها
[11] ، وكان كثير من أمراء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأعمال من بني أمية ; فإنه استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ، واستعمل على صدقات خالد بن سعيد بن العاص بن أمية مذحج وصنعاء اليمن ، ولم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستعمل على عمرا تيماء [ وخيبر وقرى عرينة ] [12]
[ استعمله أيضا على وأبان بن سعيد بن العاص البحرين برها وبحرها حين عزل ، فلم يزل عليها حتى مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسله قبل ذلك أميرا على سرايا منها سرية إلى العلاء بن الحضرمي نجد ]
[13] وولاه - رضي الله عنه - ، ولا يتهم لا في دينه ولا في سياسته . [ وقد ثبت ] في الصحيح عمر
[14] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم . وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم
[15] .
[ ص: 461 ] قالوا : كانت رعيته تحبه وهو يحبهم ومعاوية [16]
، ويصلون عليه وهو يصلي عليهم . [ وقد ثبت ] في الصحيح
[17] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم [18]
. قال مالك بن يخامر : سمعت معاذا يقول : " وهم بالشام " قالوا : " وهؤلاء كانوا عسكر " . معاوية
وفي صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " مسلم " لا يزال أهل الغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة [19] قال أحمد بن حنبل
[20] أهل [ ص: 462 ] الغرب هم أهل الشام . وقد بسطنا هذا في موضع آخر ، وهذا [ النص ]
[21] يتناول عسكر . معاوية
قالوا : أيضا ومعاوية
[22] كان خيرا من كثير ممن استنابه ، فلم يكن يستحق أن يعزل ويولى من هو دونه في السياسة ، فإن علي استناب عليا ، وقد أشاروا زياد بن أبيه
[23] على علي بتولية . [ قالوا : يا أمير المؤمنين توليه شهرا واعزله دهرا ] معاوية
[24] . ولا ريب أن هذا كان هو المصلحة ، إما لاستحقاقه وإما لتأليفه
[25] واستعطافه ، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ، وولى علي ، أبا سفيان خير منه ، فولى من هو خير من علي من هو دون ومعاوية . معاوية
فإذا قيل : إن كان مجتهدا في ذلك . عليا
قيل : كان مجتهدا فيما فعل . وأين الاجتهاد في تخصيص بعض الناس بولاية [ أو إمارة ] وعثمان
[26] أو مال ، من الاجتهاد في سفك المسلمين بعضهم دماء بعض ، حتى ذل المؤمنون وعجزوا عن مقاومة الكفار ، حتى طمعوا فيهم وفي الاستيلاء عليهم ؟ ولا ريب أنه لو لم يكن قتال ، بل كان مقيما على سياسة رعيته ، معاوية مقيما وعلي
[27] على سياسة رعيته ، لم يكن في ذلك [ ص: 463 ] من الشر أعظم
[28] مما حصل بالاقتتال ; فإنه بالاقتتال لم تزل هذه الفرقة ولم يجتمعوا على إمام ، بل سفكت الدماء ، وقويت العداوة والبغضاء ، وضعفت الطائفة التي كانت أقرب إلى الحق ، وهي طائفة علي ، وصاروا يطلبون من الطائفة الأخرى من المسالمة ما [ كانت ]
[29] تلك تطلبه ابتداء .
ومعلوم أن الفعل الذي تكون مصلحته راجحة على مفسدته ، يحصل به من الخير أعظم مما يحصل بعدمه
[30] . وهنا لم يحصل بالاقتتال مصلحة ، بل كان الأمر مع عدم القتال
[31] خيرا وأصلح منه بعد القتال ، و [ كان ] وعسكره [ أكثر ] وأقوى علي
[32] ، وأصحابه أقرب إلى موافقته ومسالمته ومعاوية
[33] ومصالحته ، فإذا كان مثل هذا الاجتهاد مغفورا لصاحبه ، فاجتهاد أن يكون مغفورا أولى وأحرى . عثمان
وأما وأعوانه فيقولون : إنما قاتلنا معاوية قتال دفع عن أنفسنا وبلادنا ; فإنه بدأنا عليا
[34] بالقتال فدفعناه بالقتال ولم نبتدئه بذلك ولا اعتدينا عليه . فإذا قيل لهم : هو الإمام الذي كانت تجب طاعته عليكم ومبايعته وأن لا تشقوا عصا المسلمين . قالوا : ما نعلم أنه إمام تجب طاعته ؛ لأن ذلك عند الشيعة إنما يعلم بالنص ، ولم يبلغنا عن النبي - صلى الله عليه [ ص: 464 ] وسلم - نص بإمامته ووجوب طاعته . ولا ريب أن عذرهم في هذا ظاهر ، فإنه لو قدر أن النص الجلي الذي تدعيه الإمامية حق ، فإن هذا قد كتم وأخفي في زمن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - ، فلم يجب أن يعلم وأصحابه مثل ذلك لو كان حقا ، فكيف إذا كان باطلا ؟ ! . معاوية
وأما قوله : " الخلافة ثلاثون سنة " ونحو ذلك . فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك ; إنما هي من نقل الخاصة [ لا سيما ]
[35] وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما . وإذا كان خفي عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الملك بن مروان - رضي الله عنها - : " لعائشة " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لنقضت الكعبة ، ولألصقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين
[36] ونحو ذلك ، حتى هدم
[37] ما فعله ، ثم لما بلغه ذلك قال : وددت أني وليته من ذلك ما تولاه . مع أن حديث ابن الزبير - رضي الله عنها - [ ثابت ] صحيح متفق على [ صحته ] عند أهل العلم عائشة
[38] ، فلأن يخفى على وأصحابه قوله : " معاوية " بطريق الأولى ، مع أن هذا في أول خلافة الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا - رضي الله عنه - لا يدل على علي عينا ، وإنما علمت دلالته على ذلك لما مات - رضي الله عنه - ، مع أنه ليس نصا في إثبات خليفة معين . علي
[ ص: 465 ] ومن جوز خليفتين
[39] في وقت يقول : كلاهما خلافة نبوة ; فإن - رضي الله عنه - كان في أول خلافته محمودا عندهم أكثر مما كان في آخرها . وإن قيل : إن خلافة معاوية ثبتت بمبايعة أهل الشوكة ، كما ثبتت خلافة من كان قبله بذلك ، أوردوا على ذلك أن طلحة بايعه مكرها ، والذين بايعوه قاتلوه ، فلم تتفق علي
[40] أهل الشوكة على طاعته .
وأيضا فإنما تجب مبايعته كمبايعة من قبله إذا سار سيرة من قبله . وأولئك كانوا قادرين على دفع الظلم عمن يبايعهم ، وفاعلين لما يقدرون عليه من ذلك . وهؤلاء قالوا : إذا بايعناه كنا في ولايته مظلومين بولايته
[41] مع الظلم الذي تقدم ، وهو لا ينصفنا إما لعجزه عن ذلك ، وإما تأويلا منه ، وإما لما ينسبه إليه آخرون منهم ; فإن قتلة لعثمان وحلفاءهم أعداؤنا ، وهم كثيرون في عسكره ، وهو عاجز عن دفعهم ، بدليل ما جرى يوم الجمل ; فإنه لما طلب عثمان طلحة الانتصار من قتلة والزبير ، قامت قبائلهم فقاتلوهم عثمان
[42] .
ولهذا كان الإمساك عن مثل هذا هو المصلحة ، كما أشار به على علي طلحة ، واتفقوا على ذلك . ثم إن القتلة أحسوا باتفاق الأكابر ، فأثاروا الفتنة والزبير
[43] وبدأوا بالحملة على عسكر طلحة ، وقالوا والزبير : إنهم [ ص: 466 ] حملوا قبل ذلك ، فقاتل كل من هؤلاء وهؤلاء [ دفعا عن نفسه ] ، ولم يكن لعلي لعلي [44] ولا لطلحة غرض في القتال أصلا ، وإنما كان الشر والزبير
[45] من قتلة . عثمان
[ وإذا كان لا ينصفنا إما تأويلا منه وإما عجزا منه عن نصرتنا ، فليس علينا أن نبايع من نظلم بولايته لا لتأوليه ولا لعجزه ]
[46] . قالوا : والذين جوزوا قتالنا قالوا : إنا بغاة ، والبغي ظلم ، فإن كان مجرد الظلم مبيحا للقتال ، فلأن يكون مبيحا لترك المبايعة أولى وأحرى ، فإن القتال أعظم فسادا من ترك المبايعة بلا قتال .
وإن قيل : - رضي الله عنه - لم يكن متعمدا لظلمهم ، بل كان مجتهدا في العدل لهم وعليهم . علي
قالوا : وكذلك نحن لم نكن متعمدين للبغي ، بل مجتهدين في العدل له وعليه . وإذا كنا بغاة كنا بغاة للتأويل . والله تعالى لم يأمر بقتال الباغي ابتداء ، وليس مجرد البغي مبيحا للقتال ، بل قال تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) سورة الحجرات فأمر بالإصلاح عند الاقتتال ، ثم قال : ( فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) وهذا بغي بعد الاقتتال ، فإنه بغي إحدى الطائفتين المقتتلتين لا بغي بدون الاقتتال ، فالبغي المجرد [ ص: 467 ] لا يبيح القتال ، مع أن الذي في الحديث أن تقتله عمارا [47]
الفئة الباغية ، قد تكون
[48] الفئة التي باشرت قتله أ ، ن ، ص ، و ، ه : الفئة هي التي باشرت قتله .
1 [ هم البغاة ]
[49] لكونهم قاتلوا لغير حاجة إلى القتال أو لغير ذلك ، وقد تكون غير بغاة قبل القتال ، لكن لما اقتتلتا بغيتا ، وحينئذ قتل الفئة الباغية . فليس في الحديث ما يدل على أن البغي كان منا قبل القتال ، ولما بغينا كان عسكر عمارا متخاذلا لم يقاتلنا . ولهذا قالت علي - رضي الله عنها - : ترك الناس العمل بهذه الآية . عائشة
وأما قوله : " إن قتل جمعا كثيرا من خيار الصحابة " . معاوية
فيقال : الذين قتلوا [ قتلوا ]
[50] من الطائفتين ; قتل هؤلاء من هؤلاء ، وهؤلاء من هؤلاء . وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا ولا عليا ، وكان معاوية علي - رضي الله عنهما - أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين ، لكن غلبا فيما وقع . والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء ومعاوية
[51] عن إطفاء نارها ، وكان في العسكرين مثل ، الأشتر النخعي وهاشم بن عتبة [ المرقال ]
[52] وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأبي الأعور السلمي ، ونحوهم من المحرضين على القتال : قوم ينتصرون [ ص: 468 ] غاية الانتصار ، وقوم ينفرون عنه ، [ وقوم ينتصرون لعثمان ، وقوم ينفرون عنه ] لعلي
[53] .
ثم قتال أصحاب معه لم يكن لخصوص معاوية ، بل كان لأسباب أخرى . وقتال الفتنة مثل قتال الجاهلية لا تنضبط مقاصد أهله واعتقاداتهم ، كما قال معاوية : " وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون ، فأجمعوا أن كل دم أو مال أو فرج الزهري
[54] أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر : أنزلوهم منزلة الجاهلية " .
وأما ما ذكره من لعن ، فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة ، وكان هؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم ، وهؤلاء يلعنون رءوس هؤلاء في دعائهم . وقيل : إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى . والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان ، وهذا كله سواء كان ذنبا أو اجتهادا : مخطئا أو مصيبا ، فإن مغفرة الله ورحمته تتناول ذلك بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وغير ذلك . علي
ثم من العجب الرافضة تنكر سب علي ، وهم يسبون أبا بكر وعمر ويكفرونهم ومن والاهم وعثمان . أن - رضي الله عنه - وأصحابه ما كانوا يكفرون ومعاوية ، وإنما يكفره عليا الخوارج المارقون ، والرافضة شر منهم . فلو أنكرت الخوارج السب لكان تناقضا منها ، فكيف إذا أنكرته الرافضة ؟ ! .
ولا ريب أنه : لا لا يجوز سب أحد من الصحابة ولا علي ولا غيرهما ، ومن سب عثمان أبا بكر وعمر فهو أعظم إثما ممن سب وعثمان ، [ ص: 469 ] وإن كان متأولا فتأويله أفسد من تأويل من سب عليا ، وإن كان المتأول في سبهم ليس بمذموم لم يكن أصحاب عليا مذمومين ، وإن كان مذموما كان ذم معاوية الشيعة الذين سبوا الثلاثة أعظم من سب الناصبة الذين سبوا وحده . فعلى كل تقدير هؤلاء أبعد عن الحق . عليا
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه
[55] .
وأما قوله : " إن سم معاوية " . الحسن
فهذا مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببينة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا نقل يجزم به . وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم . وقد رأينا في زماننا من يقال عنه : إنه سم ومات مسموما من الملوك وغيرهم
[56] ، ويختلف الناس في ذلك ، حتى في نفس الموضع الذي مات فيه ذلك الملك ، والقلعة التي مات فيها ، فتجد كلا منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر ، ويقول : هذا سمه فلان ، وهذا يقول : بل سمه غيره
[57] لأنه جرى كذا ، وهي واقعة في زمانك ، والذين كانوا في قلعته هم الذين يحدثونك .
- رضي الله عنه - قد نقل عنه والحسن
[58] أنه مات مسموما . وهذا مما يمكن [ ص: 470 ] أن يعلم ، فإن موت المسموم لا يخفى ، لكن يقال : إن امرأته سمته . ولا ريب أنه مات بالمدينة ومعاوية بالشام ، فغاية ما يظن الظان [ أن يقال ] :
[59] إن أرسل إليها وأمرها بذلك . وقد يقال : بل سمته امرأته معاوية
[60] لغرض آخر مما تفعله النساء ; فإنه كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة .
وقد قيل [61] : إن أباها أمرها بذلك الأشعث بن قيس
[62] ; فإنه كان يتهم بالانحراف في الباطن عن علي
[63] وابنه . الحسن
وإذا قيل : إن أمر أباها ، كان هذا ظنا محضا . والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : معاوية
[64] " الظن أكذب الحديث " إياكم والظن ، فإن [65] .
وبالجملة فمثل هذا لا يحكم به في الشرع باتفاق المسلمين ، فلا يترتب [ ص: 471 ] عليه أمر ظاهر : لا مدح ولا ذم ، والله أعلم . * ثم إن مات سنة أربعين ، وقيل : سنة إحدى وأربعين ، ولهذا لم يذكر في الصلح الذي كان بين الأشعث بن قيس معاوية ، في العام الذي كان يسمى عام الجماعة ، وهو عام أحد وأربعين والحسن بن علي
[66] ، وكان الأشعث حما
[67] الحسن بن علي ، فلو كان شاهدا لكان يكون له ذكر في ذلك ، وإذا كان قد مات قبل بنحو عشر سنين ، فكيف يكون هو الذي أمر ابنته أن تسم الحسن ؟ الحسن [68]
والله سبحانه وتعالى أعلم * [69] بحقيقة الحال ، وهو يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون . فإن كان قد وقع شيء من ذلك فهو من باب قتال
[70] بعضهم بعضا [ كما تقدم ، وقتال المسلمين بعضهم بعضا ]
[71] بتأويل ، وسب بعضهم بعضا بتأويل ، وتكفير بعضهم بعضا بتأويل : باب عظيم ، ومن لم يعلم حقيقة الواجب فيه وإلا
[72] ضل .
[ ص: 472 ] وأما قوله : " وقتل ابنه يزيد مولانا ونهب نساءه " . الحسين
فيقال : إن يزيد لم يأمر بقتل باتفاق أهل النقل ، ولكن كتب إلى الحسين ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق . - رضي الله عنه - كان يظن أن والحسين أهل العراق ينصرونه ويفون له
[73] بما كتبوا إليه ، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ، فلما قتلوا مسلما وغدروا به وبايعوا ابن زياد ، أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة ، فطلب
[74] أن يذهب إلى يزيد ، أو يذهب إلى الثغر ، أو يرجع إلى بلده ، فلم يمكنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر
[75] لهم ، فامتنع ، فقاتلوه حتى قتل شهيدا مظلوما - رضي الله عنه - ، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع على ذلك ، وظهر
[76] البكاء في داره ، ولم يسب له حريما أصلا ، بل أكرم أهل بيته ، وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم
[77] .
ولو قدر أن يزيد قتل لم يكن ذنب ابنه الحسين
[78] ذنبا له ; فإن الله تعالى يقول : (
[79] قصة معروفة ، لما حضه على [ ص: 473 ] طلب الخلافة ، وامتناع
[80] سعد من ذلك ، ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره .
ففي صحيح مسلم قال : كان عامر بن سعد بن أبي وقاص في إبله ، فجاءه سعد بن أبي وقاص
[81] ابنه ، فلما رآه عمر سعد قال : أعوذ بالله من شر هذا الراكب . فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم ؟ فضرب سعد في صدره فقال : اسكت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " عن
[82] .
يقال : إنه أعان على قتل ومحمد بن أبي بكر ، وكان أبوه عثمان - رضي الله عنه - من أشد الناس تعظيما أبو بكر ، فهل روى أحد من أهل السنة قدحا في لعثمان لأجل فعل ابنه أبي بكر
[83] .
وإذا قيل : إن معاوية - رضي الله عنه - استخلف يزيد ، وبسبب ولايته فعل هذا .
قيل : استخلافه إن كان جائزا لم يضره ما فعل ، وإن لم يكن جائزا فذاك ذنب مستقل ولو لم يقتل . وهو مع ذلك كان من أحرص الناس على إكرام الحسين - رضي الله عنه - وصيانة حرمته ، فضلا عن دمه الحسين
[84] ، فمع هذا القصد والاجتهاد لا يضاف إليه فعل أهل الفساد .
[ ص: 474 ] وأما قوله : " وكسر أبوه ثنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأكلت أمه كبد عم النبي - صلى الله عليه وسلم - " . حمزة
فلا ريب أن كان قائد المشركين يوم أبا سفيان بن حرب أحد ، وكسرت ذلك اليوم ثنية النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كسرها بعض المشركين . لكن لم يقل أحد : إن باشر ذلك ، وإنما كسرها أبا سفيان عتبة بن أبي وقاص
[85] ، وأخذت هند كبد فلاكتها ، فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها . حمزة
وكان هذا قبل إسلامهم ، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرمها ، والإسلام يجب ما قبله ، وقد قال الله تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) سورة الأنفال .
وفي صحيح عن مسلم عبد الرحمن بن شماسة المهري قال : [86]
[87] [ ص: 475 ] وهو في سياقة عمرو بن العاص
[88] الموت ، فبكى طويلا ، وحول وجهه إلى الجدار ، فجعل ابنه يقول :
[89] ما يبكيك يا أبتاه ؟ أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا ؟ أما بشرك بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه فقال :
[90] إن أفضل ما نعد
[91] شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إني قد كنت على أطباق ثلاث ، لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ، ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار ، فلما جعل الله - عز وجل - الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه . قال : فقبضت يدي . فقال : " ما لك
[92] يا عمرو ؟ " قال : قلت : أريد أن أشترط ، قال : " تشترط بماذا ؟ "
[93] قلت : أن يغفر لي . قال :
[94] " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ " وذكر الحديث حضرنا
[95] .
وفي : لما أسلمت البخاري هند [ أم معاوية - رضي الله عنهما - ] قالت :
[96] [ ص: 476 ] والله يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك
[97] .