الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب  ، كما زادوا في قتل عثمان ، وكما زادوا فيما يراد تعظيمه من الحوادث ، وكما زادوا في المغازي والفتوحات وغير ذلك . والمصنفون في أخبار قتل الحسين منهم من هو من أهل العلم ، كالبغوي وابن أبي الدنيا وغيرهما ، ومع ذلك فيما يروونه آثار منقطعة وأمور باطلة . وأما ما يرويه المصنفون في المصرع بلا إسناد ، فالكذب فيه كثير ، والذي ثبت في الصحيح أن الحسين لما قتل حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد ، وأنه نكت بالقضيب على ثناياه ، وكان بالمجلس أنس بن مالك - رضي الله عنه - وأبو برزة الأسلمي .

                  ففي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست

                  [1] فجعل ينكت ، وقال في حسنه شيئا ، فقال أنس : كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مخضوبا بالوسمة

                  [2] .

                  وفيه أيضا عن ابن أبي نعم

                  [3] ، قال : سمعت ابن عمر ، وسأله رجل [ ص: 557 ] عن المحرم يقتل الذباب ، فقال : يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب ، وقد قتلتم ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هما ريحانتاي من الدنيا "

                  [4] .

                  وقد روي بإسناد مجهول أن هذا كان قدام يزيد ، وأن الرأس حمل إليه

                  [5] ، وأنه هو الذي نكت على ثناياه . وهذا مع أنه لم يثبت ففي الحديث ما يدل على أنه كذب ، فإن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام وإنما كانوا بالعراق . والذي نقله غير واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين ، ولا كان له غرض في ذلك ، بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه ، كما أمره بذلك معاوية - رضي الله عنه - . ولكن كان يختار أن يمتنع من الولاية والخروج عليه ، فلما قدم الحسين وعلم أن أهل العراق يخذلونه ويسلمونه ، طلب أن يرجع إلى يزيد ، أو يرجع إلى وطنه ، أو يذهب إلى الثغر ، فمنعوه من ذلك حتى يستأسر ، فقاتلوه حتى قتل مظلوما شهيدا - رضي الله عنه - وأن خبر قتله لما بلغ يزيد وأهله ساءهم ذلك ، وبكوا على قتله ، وقال يزيد : لعن الله ابن مرجانة - يعني عبيد الله بن زياد - [ أما ] والله [ ص: 558 ] لو كان

                  [6] بينه وبين الحسين رحم لما قتله . وقال : قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين . وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز وأرسلهم إلى المدينة ، لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين ، ولا أمر بقتل قاتله ، ولا أخذ بثأره .

                  وأما ما ذكره من سبي نسائه [ والذراري ]

                  [7] ، والدوران بهم في البلاد

                  [8] ، وحملهم على الجمال بغير أقتاب ، فهذا كذب وباطل : ما سبى المسلمون - ولله الحمد - هاشمية قط ، ولا استحلت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - سبي بني هاشم قط  ، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرا ، كما تقول طائفة منهم : إن الحجاج قتل الأشراف ، يعنون بني هاشم .

                  وبعض الوعاظ وقع بينه وبين بعض من كانوا يدعون أنهم علويون ، ونسبهم مطعون فيه ، فقال على منبره : إن الحجاج قتل الأشراف كلهم ، فلم يبق لنسائهم رجل ، فمكنوا منهن

                  [9] رجالا ، فهؤلاء من أولاد أولئك . وهذا كله كذب ; فإن الحجاج لم يقتل من بني هاشم أحدا قط ، مع كثرة قتله لغيرهم . فإن عبد الملك أرسل إليه يقول له : إياك وبني هاشم أن تتعرض لهم ، فقد رأيت بني حرب لما تعرضوا للحسين أصابهم ما أصابهم . أو كما قال [10] . ولكن قتل الحجاج كثيرا من أشراف العرب  ، أي [ ص: 559 ] سادات العرب . ولما سمع الجاهل أنه قتل الأشراف - وفي لغته أن الأشراف هم

                  [11] الهاشميون أو بعض الهاشميين ، ففي بعض البلاد أن الأشراف عندهم ولد العباس ، وفي بعضها الأشراف عندهم ولد علي .

                  ولفظ " الأشراف " لا يتعلق به حكم شرعي ، وإنما الحكم يتعلق ببني هاشم ، كتحريم الصدقة ، وأنهم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك .

                  والحجاج كان قد تزوج ببنت عبد الله بن جعفر ، فلم يرض بذلك بنو أمية حتى نزعوها منه ، لأنهم معظمون لبني هاشم .

                  وفي الجملة فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية ، ولا سبي عيال الحسين ، بل لما دخلوا إلى بيت يزيد

                  [12] قامت النياحة في بيته ، [ وأكرمهم ]

                  [13] وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة ، فاختاروا الرجوع إلى المدينة ، ولا طيف برأس الحسين . وهذه الحوادث فيها من الأكاذيب

                  [14] ما ليس هذا موضع بسطه .

                  وأما ما ذكره من الأحداث والعقوبات الحاصلة بقتل الحسين   ; فلا ريب أن قتل الحسين من أعظم الذنوب ، وأن فاعل ذلك والراضي به والمعين عليه مستحق لعقاب الله الذي يستحقه أمثاله ، لكن قتله ليس بأعظم من قتل من هو أفضل منه من النبيين ، والسابقين الأولين ، ومن قتل في حرب مسيلمة ، وكشهداء أحد ، والذين قتلوا ببئر معونة ، وكقتل عثمان ، وقتل [ ص: 560 ] علي ، لا سيما والذين قتلوا أباه عليا كانوا يعتقدونه كافرا مرتدا ، وأن قتله من أعظم القربات ، بخلاف الذين قتلوا الحسين ; فإنهم لم يكونوا يعتقدون

                  [15] كفره ، وكان كثير منهم - أو أكثرهم - يكرهون قتله ، ويرونه ذنبا عظيما ، لكن قتلوه لغرضهم ، كما يقتل الناس بعضهم بعضا على الملك .

                  وبهذا وغيره يتبين أن كثيرا مما روي في ذلك كذب ، مثل كون السماء أمطرت

                  [16] دما ، [ فإن هذا ما وقع قط في قتل أحد ]

                  [17] ، ومثل كون الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تظهر قبل ذلك ; فإن هذا من الترهات ، فما زالت هذه الحمرة تظهر ولها سبب طبيعي من جهة الشمس ، فهي بمنزلة الشفق .

                  وكذلك قول القائل : " إنه ما رفع حجر في الدنيا إلا وجد تحته دم عبيط " .

                  هو أيضا كذب بين .

                  وأما قول الزهري : ما بقي أحد من قتلة الحسين إلا عوقب

                  [18] في الدنيا .

                  فهذا ممكن ، وأسرع الذنوب عقوبة البغي ، والبغي على الحسين من أعظم البغي .

                  وأما قوله : " وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسين ، ويقول لهم : هؤلاء وديعتي عندكم . وأنزل الله [ ص: 561 ] فيهم : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) [ سورة الشورى : 23 ] .

                  فالجواب : أما الحسن والحسين فحقهما واجب بلا ريب . و [ قد ثبت ] في الصحيح

                  [19] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب الناس بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال : " إني تارك فيكم الثقلين : أحدهما كتاب الله " فذكر كتاب الله وحض عليه ، ثم قال : " وعترتي أهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي ، [ أذكركم الله في أهل بيتي ] "

                  [20] .

                  والحسن والحسين من أعظم أهل بيته اختصاصا به ، كما ثبت في الصحيح أنه أدار كساءه

                  [21] على علي وفاطمة وحسن وحسين ثم قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
                  "

                  [22] .

                  وأما قوله : " إنه كان يكثر الوصية بهما ويقوله لهم

                  [23] : " هؤلاء وديعتي عندكم
                  "

                  [24] .

                  فهذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها .

                  والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من أن يودع ولديه لمخلوق  ، فإن ذلك إن أريد به حفظهما كما يحفظ المال المودع ، فالرجال لا يودعون . وإن كان كما يستودع الرجل أطفاله لمن يحفظهم ويربيهم ، فهما كانا في حضانة أبيهما ، [ ص: 562 ] ثم لما بلغا رفع عنهما [ حجر ]

                  [25] الحضانة فصار كل منهما في يد نفسه . وإن أريد بذلك أنه أراد أن الأمة تحفظهما وتحرسهما ، فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ، وكيف يمكن واحد من الأمة أن يدفع عنهما الآفات ؟ .

                  وإن أراد بذلك المنع من أذاهما بالعدوان عليهما ، ونصرهما ممن يبغي عليهما . فلا ريب أن هذا واجب لمن هو دونهما ، [ فكيف ]

                  [26] لا يجب لهما ؟ وهذا من حقوق المسلم على المسلم ، وحقهما أوكد من حق غيرهما .

                  وأما قوله : " وأنزل الله فيهم : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) [ سورة الشورى : 23 ] .

                  فهذا كذب ظاهر

                  [27] ; فإن هذه الآية في سورة الشورى ، وسورة [ الشورى ] مكية

                  [28] بلا ريب نزلت قبل أن يتزوج علي بفاطمة - رضي الله عنهما - وقبل أن يولد [ له ]

                  [29] الحسن والحسين ; فإن عليا إنما تزوج فاطمة

                  [30] بالمدينة بعد الهجرة في العام الثاني ، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر ، وكانت بدر في شهر رمضان سنة اثنتين . وقد تقدم الكلام على الآية [ الكريمة ]

                  [31] ، وأن المراد بها ما بينه ابن عباس - رضي الله عنهما - من أنه لم [ ص: 563 ] تكن قبيلة من قريش

                  [32] إلا وبينها وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة ، فقال : " لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى : إلا أن تودوني

                  [33] في القرابة التي بيني وبينكم " رواه البخاري وغيره

                  [34] .

                  وقد ذكر طائفة من المصنفين من أهل السنة والجماعة والشيعة ، من أصحاب أحمد وغيرهم ، حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية لما نزلت قالوا : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال علي وفاطمة وابناهما . وهذا كذب باتفاق أهل المعرفة [ بالحديث ]

                  [35] .

                  [ ومما يبين ذلك أن هذه الآية نزلت بمكة باتفاق أهل العلم ]

                  [36] ; فإن سورة الشورى جميعها مكية ، بل جميع آل حم كلهن مكيات ، وعلي لم يتزوج فاطمة إلا بالمدينة كما تقدم ، ولم يولد له الحسن والحسين إلا في السنة الثالثة والرابعة من الهجرة ، فكيف يمكن أنها لما نزلت بمكة قالوا : يا رسول الله من هؤلاء ؟ قال : علي وفاطمة وابناهما .

                  قال الحافظ عبد الغني المقدسي : " ولد الحسن سنة ثلاث من الهجرة في النصف من شهر رمضان . هذا أصح ما قيل فيه . وولد الحسين لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة " . قال : " وقيل سنة ثلاث " .

                  قلت : ومن قال هذا يقول : إن الحسن ولد سنة اثنتين

                  [37] ، وهذا [ ص: 564 ] ضعيف ; فقد ثبت في الصحيح أن عليا لم يدخل بفاطمة - رضي الله عنهما - إلا بعد غزوة بدر

                  [38] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية