الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 589 ] ( فصل )

                  [1] .

                  قال الرافضي

                  [2] : " فلينظر العاقل أي الفريقين أحق بالأمن : الذي نزه الله وملائكته وأنبياءه وأئمته ; ونزه

                  [3] الشرع عن المسائل الردية

                  [4] ، ومن يبطل

                  [5] الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ، ويذكر أئمة غيرهم

                  [6] ، أم الذي فعل ضد ذلك واعتقد خلافه ؟ " .


                  والجواب أن يقال : ما ذكرتموه من التنزيه إنما هو تعطيل وتنقيص لله ولأنبيائه . [ بيان ] ذلك أن

                  [7] قول الجهمية نفاة الصفات يتضمن وصف الله تعالى بسلب صفات الكمال التي يشابه فيها الجمادات والمعدومات ، فإذا قالوا : إنه لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة ، ولا كلام ولا مشيئة ، ولا حب ولا بغض ، ولا رضا ولا سخط ، ولا يرى ولا يفعل بنفسه فعلا ، ولا يقدر أن يتصرف بنفسه ، كانوا قد شبهوه بالجمادات المنقوصات ، وسلبوه صفات الكمال ، فكان هذا تنقيصا وتعطيلا لا تنزيها ، وإنما التنزيه أن ينزه [ ص: 590 ] عن النقائص المنافية لصفات الكمال ، فينزه عن الموت والسنة والنوم ، والعجز والجهل والحاجة ، كما نزه نفسه في كتابه ، فيجمع له بين إثبات صفات الكمال ، ونفي النقائص المنافية للكمال ، وينزه عن مماثلة شيء من المخلوقات له في شيء من صفاته ، وينزه عن النقائص مطلقا ، وينزه في صفات الكمال أن يكون له فيها مثل من الأمثال .

                  وأما الأنبياء فإنكم سلبتموهم ما أعطاهم الله من الكمال وعلو الدرجات ، بحقيقة التوبة والاستغفار ، والانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه

                  [8] ، وكذبتم ما أخبر الله به من ذلك ، وحرفتم الكلم عن مواضعه ، وظننتم أن انتقال الآدمي من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الغي إلى الرشاد ، تنقصا

                  [9] ، ولم تعلموا أن هذا من أعظم نعم الله وأعظم قدرته ، حيث ينقل العباد من النقص إلى الكمال ، وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما ، يكون

                  [10] حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير . كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية " .

                  وأما تنزيه الأئمة فمن الفضائح التي يستحيا

                  [11] من ذكرها ، لا سيما الإمام المعدوم الذي لا ينتفع به لا في دين ولا دنيا .

                  وأما تنزيه الشرع عن المسائل الردية ، فقد تقدم أن أهل السنة لم يتفقوا [ ص: 591 ] على مسألة ردية ، بخلاف الرافضة ; فإن لهم من المسائل الردية ما لا يوجد لغيرهم .

                  وأما قوله : " ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ، ويذكر أئمة غيرهم " .

                  فإما أن يكون المراد بذلك أنه تجب الصلاة على الأئمة الاثني عشر ، أو على واحد معين غير النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أو من غيرهم .

                  وأما أن يكون المراد وجوب الصلاة على [ آل ]

                  [12] النبي - صلى الله عليه وسلم - . فإن أراد

                  [13] الأول فهذا من أعظم ضلالهم وخروجهم عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ; فإنا نحن وهم نعلم بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المسلمين أن يصلوا على الاثني عشر : لا في الصلاة ، ولا في غير [ الصلاة ]

                  [14] ، ولا كان أحد من المسلمين يفعل شيئا من ذلك على عهده ، ولا نقل هذا أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ، ولا كان يجب على أحد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ أحدا من الاثني عشر إماما ، فضلا عن أن تجب الصلاة عليه في الصلاة .

                  وكانت صلاة المسلمين صحيحة في عهده

                  [15] بالضرورة والإجماع . فمن أوجب الصلاة على هؤلاء في الصلاة ، وأبطل الصلاة بإهمال الصلاة [ ص: 592 ] عليهم ، فقد غير دين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبدله ، كما بدلت اليهود والنصارى دين الأنبياء .

                  وإن قيل : المراد أن يصلى على آل محمد ، وهم منهم .

                  قيل : آل محمد يدخل فيهم

                  [16] بنو هاشم وأزواجه ، وكذلك بنو المطلب على أحد

                  [17] القولين . وأكثر هؤلاء تذمهم الإمامية ; فإنهم

                  [18] يذمون ولد العباس ، لا سيما خلفاؤهم ، وهم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ويذمون من يتولى أبا بكر وعمر . وجمهور بني هاشم يتولون أبا بكر وعمر ، ولا يتبرأ منهم صحيح النسب من بني هاشم إلا نفر قليل

                  [19] بالنسبة إلى كثرة بني هاشم . وأهل العلم [ والدين ]

                  [20] منهم يتولون أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - .

                  ومن العجب من هؤلاء الرافضة أنهم يدعون تعظيم آل محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - وهم سعوا في مجيء التتر

                  [21] الكفار إلى بغداد دار الخلافة
                  ، حتى قتلت الكفار من المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى [ من بني هاشم وغيرهم ]

                  [22] وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمائة ألف ونيفا وسبعين ألفا [23] وقتلوا الخليفة العباسي ، وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين .

                  [ ص: 593 ] فهذا هو البغض لآل محمد - صلى الله عليه وسلم - بلا ريب . [ وكان ذلك من فعل الكفار بمعاونة الرافضة ، وهم الذين سعوا في سبي الهاشميات ونحوهم إلى يزيد وأمثاله ، فما يعيبون على غيرهم بعيب إلا وهو فيهم أعظم ]

                  [24] .

                  وقد ثبت في الصحيح والمسانيد والسنن من غير وجه أن المسلمين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلون عليه . قال : " قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على [ إبراهيم وعلى ] آل إبراهيم

                  [25] إنك حميد مجيد . وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد


                  [26] مجيد

                  [27] ، وفي لفظ : " وعلى أزواجه وذريته "

                  [28] .

                  [ ص: 594 ] وقد ثبت في الصحيح أنه قال : " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد " . وثبت في الصحيح أن الفضل بن العباس و [ عبد المطلب ]

                  [29] بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب
                  طلبا منه - عليه الصلاة والسلام - أن يوليهما على الصدقة ، فقال : " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، وإنما هي أوساخ الناس
                  " [30] فبين

                  [31] أن ولد العباس وولد الحارث بن عبد المطلب من آل محمد تحرم عليهم الصدقة .

                  وثبت في الصحاح أنه أعطى من سهم ذوي القربى لبني المطلب بن عبد مناف ، وقال : " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ، إنهم لم يفارقونا

                  [32] في جاهلية ولا إسلام
                  "

                  [33] .

                  وهؤلاء أبعد من بني العباس وبني الحارث بن عبد المطلب ; فهؤلاء كلهم من ذوي القربى . ولهذا اتفق العلماء على أن بني العباس وبني الحارث بن عبد المطلب من آل محمد الذين تحرم عليهم الصدقة ، [ ص: 595 ] ويدخلون في الصلاة ، ويستحقون [ من ]

                  [34] الخمس وتنازعوا

                  [35] في بني المطلب بن عبد مناف : هل تحرم عليهم الصدقة ، ويدخلون في آل محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد : إحداهما : أنه تحرم عليهم الصدقة ، كقول الشافعي . والثانية : لا تحرم ، كقول أبي حنيفة . وآل محمد عند الشافعي وأحمد في المنصوص عنه - وهو اختيار الشريف أبي جعفر بن أبي موسى وغيره من أصحابه - هم الذين تحرم عليهم الصدقة ، وهم بنو هاشم . وفي بني المطلب روايتان .

                  وكذلك أزواجه : هل هن من آله الذين تحرم عليهم الصدقة ؟ عن أحمد فيه روايتان . وأما عتقى أزواجه : كبريرة ، فتحل لهن الصدقة وبالإجماع ، وإن حرمت على موالي بني هاشم . وعند طائفة أخرى من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما : هم أمته . وعند طائفة من الصوفية : هم الأتقياء من أمته .

                  ولم يأمر الله بالصلاة على معين غير النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، ولو صلى على بعض أهل بيته دون بعض ، كالصلاة على ولد العباس دون علي أو بالعكس - لكان مخالفا للشريعة ، فكيف إذا صلى على قوم معينين دون غيرهم ؟ .

                  ثم إبطال الصلاة بترك الصلاة على هؤلاء من العجائب . والفقهاء متنازعون في وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وجمهورهم لا يوجبها ، ومن أوجبها يوجب الصلاة عليه دون آله ، ولو [ ص: 596 ] أوجب

                  [36] الصلاة على آله عموما لم يجز أن يجعل الواجب الصلاة على قوم معينين دون غيرهم ، بل قد تنازع العلماء فيما إذا دعا لقوم معينين في الصلاة هل تبطل [ صلاته ]

                  [37] ؟ على قولين . وإن كان الصحيح أنها لا تبطل ، ولا [ أن يجعل ]

                  [38] مناط الوجوب كونهم أئمة ، ولهذا لم يوجب أهل السنة الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا أئمتهم ولا غير [ أئمتهم ]

                  [39] لأن إيجاب هذا من البدع المضلة المخالفة لشريعة الله تعالى ، كما أن الشهادتين ليس فيهما

                  [40] إلا ذكر الله ورسوله ، لا في الأذان ولا في الصلاة ولا في غير ذلك

                  [41] ، فلو

                  [42] ذكر في الشهادتين غير الله ورسوله من الأئمة كان ذلك من أعظم الضلالات

                  [43] ، وكذلك إبطاله

                  [44] الصلاة بالصلاة على أئمة المسلمين قول باطل ; فإنه لو دعا لمعين أو عليه في الصلاة بدعاء جائز لم تبطل الصلاة بذلك

                  [45] عند جماهير العلماء ، فإنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في صلاته : " اللهم أنج

                  [46] الوليد بن الوليد ، [ ص: 597 ] وسلمة بن هشام ، والمستضعفين من المؤمنين

                  [47] ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف
                  "

                  [48] .

                  وكذلك كان يقول : " اللهم العن رعلا وذكوان وعصية "

                  [49] . فقد دعا في صلاته

                  [50] لقوم معينين بأسمائهم ، ودعا على قبائل معينين بأسمائهم ; فمن أبطل الصلاة بمثل ذلك كان فساد قوله كفساد قوله بإيجاب الصلاة على ناس معينين .

                  وأهل السنة لا يوجبون

                  [51] هذا ولا يحرمون هذا ، إنما يوجبون ما أوجب الله تعالى ورسوله ، ويحرمون ما حرم الله ورسوله .

                  وأما إن أراد أنه تجب الصلاة على آل محمد دون غيرهم .

                  فيقال : أولا : هذا فيه نزاع بين العلماء ; فمذهب الأكثرين أنه لا يجب في الصلاة [ أن يصلى ]

                  [52] على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا آله . وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وادعى بعض الناس [ - وهو الطحاوي - ]

                  [53] وغيره أن هذا إجماع قديم . والقول الثاني [ ص: 598 ] أنه تجب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - [ في الصلاة ]

                  [54] ، كقول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية عنه . ثم على هذه الرواية : هل هي ركن أو واجب تسقط بالسهو فيه ؟

                  [55] عن أحمد روايتان .

                  وهؤلاء الذين أوجبوا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم من أوجبها باللفظ المأثور ، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد . فعلى هذا تجب الصلاة على آل محمد . ومنهم من لم يوجب اللفظ ، بل منهم من لا يوجب إلا الصلاة عليه دون آله ، كما هو معروف في مذهب الشافعي وأحمد ; فعلى هذا لا تجب الصلاة على آله .

                  وإذا عرف أن في هذه المسألة نزاعا مشهورا ، فيقال : على تقدير وجوب الصلاة على آل محمد

                  [56] فهذه

                  [57] الصلاة لجميع آل محمد لا تختص

                  [58] بصالحيهم

                  [59] ، فضلا عن أن تختص

                  [60] بمن هو معصوم ، بل تتناول كل من دخل في آل محمد ، كما أن الدعاء للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يتناول كل من دخل في الإيمان والإسلام ، ولا يلزم من الدعاء للمؤمنين عموما ولا لأهل البيت عموما أن يكون كل منهم برا تقيا ، بل الدعاء لهم طلبا لإحسان الله تعالى إليهم وتفضله عليهم ، وفضل الله [ ص: 599 ] سبحانه وإحسانه يطلب لكل أحد

                  [61] ، لكن يقال : إن هذا حق لآل محمد أمر الله به .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية