الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والجواب : أن أخطب خوارزم هذا له مصنف في هذا الباب فيه [1] من [ ص: 42 ] الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث ، فضلا عن علماء الحديث ، وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يرجع إليه في هذا الشأن البتة [2] . وهذه الأحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها من المكذوبات . وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم ، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ؛ فكيف يذكر ما أجمعوا على أنه كذب موضوع ، ولم يرو [3] في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، ولا صححه أحد من أئمة الحديث .

                  فالعشرة الأول [4] كلها كذب إلى آخر حديث قتله [5] لعمرو بن عبد ود . وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسب فأبى ، فقال : ما منعك أن تسب علي بن أبي طالب ؟ فقال : ثلاث قالهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلن أسبه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم . . . الحديث . فهذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه [6] وفيه ثلاث فضائل لعلي لكن ليست من خصائص الأئمة ولا من خصائص [ ص: 43 ] علي ، فإن قوله وقد خلفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول الله ، تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . ليس من خصائصه ; فإنه استخلف على المدينة غير واحد ، ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره . ولهذا قال له علي : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في كل غزاة [7] يترك بالمدينة رجالا من المهاجرين والأنصار إلا في غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير [8] ، فلم يتخلف بالمدينة إلا عاص أو معذور غير النساء والصبيان . ولهذا كره علي الاستخلاف ، وقال : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ يقول تتركني مخلفا لا تستصحبني معك ؟ فبين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستخلاف ليس نقصا [9] ولا غضاضة ; فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده ، وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي ، لكن موسى استخلف نبيا وأنا لا نبي بعدي . وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف فإن موسى استخلف هارون على جميع بني إسرائيل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف عليا على قليل من المسلمين ، وجمهورهم استصحبهم في الغزاة . وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر : هذا بإبراهيم وعيسى ، وهذا بنوح وموسى ; فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون ، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد ، فكان [10] هذا التشبيه أعظم من تشبيه [ ص: 44 ] علي ، مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابه .

                  وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه ، فلم يكن الاستخلاف من الخصائص ، ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص .

                  وكذلك قوله لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله [ ويحبه الله ورسوله ] [11] قال : فتطاولنا ، فقال : ادعوا لي عليا ، فأتاه وبه رمد ، فبصق في عينيه [12] ودفع الراية إليه ، ففتح الله على يديه . وهذا الحديث أصح ما روي لعلي من الفضائل ، أخرجاه في الصحيحين من غير وجه . وليس هذا الوصف مختصا بالأئمة ولا بعلي ; فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي وكل مؤمن تقي يحب الله ورسوله ؛ لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرءون منه ولا يتولونه ولا يحبونه ، بل قد [13] يكفرونه أو يفسقونه [14] كالخوارج ; فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله [15] .

                  لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم ; فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك ، لكن هذا باطل ، فإن الله ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا[16] ، وبعض أهل الأهواء من [ ص: 45 ] المعتزلة وغيرهم ، وبعض المروانية ومن كان على هواهم ، الذين كانوا يبغضونه ويسبونه .

                  كذلك حديث المباهلة شركه فيه فاطمة وحسن وحسين [17] ، كما شركوه [18] في حديث الكساء ، فعلم أن ذلك [19] لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة ، بل يشركه [20] فيه المرأة والصبي ، فإن الحسن والحسين كانا صغيرين عند المباهلة ، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكة [ سنة تسع أو عشر ] [21] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مات ولم يكمل الحسين سبع سنين ، والحسن أكبر منه بنحو سنة ، وإنما دعا هؤلاء لأنه أمر أن يدعو كل واحد من [22] الأقربين : الأبناء [23] والنساء والأنفس ، فيدعو [24] الواحد من أولئك أبناءه ونساءه ، وأخص الرجال به نسبا .

                  وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نسبا ، وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده ، فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه ، لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم [25] أخص الناس به ، لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي [26] رحمه الأقربين إليه ، ولهذا خصهم في حديث الكساء .

                  [ ص: 46 ] والدعاء لهم والمباهلة مبناها على العدل [27] ، فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا ، وهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب ؛ ولهذا امتنعوا عن [28] المباهلة ، لعلمهم بأنه [29] على الحق ، وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بهلة الله [30] وعلى الأقربين إليهم ، بل قد يحذر الإنسان على ولده ما لا يحذره [31] على نفسه .

                  فإن قيل فإذا [32] كان ما صح من فضائل علي رضي الله عنه ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ، وقوله : " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " ، وقوله : " اللهم هؤلاء [33] أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " ليس من خصائصه ، بل له فيه شركاء ، فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك كما روي عن سعد [34] وعن عمر ؟ .

                  فالجواب : أن في ذلك شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا ، وإثباتا لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له . وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه ، كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس ، كما قال النبي [35] - صلى الله عليه [ ص: 47 ] وسلم - فيهم [36] يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم [37] وهؤلاء يكفرونه ويستحلون قتله ، ولهذا قتله واحد منهم ؛ وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي مع كونه كان من أعبد الناس .

                  وأهل العلم والسنة يحتاجون إلى إثبات إيمان علي وعدله ودينه - للرد على هؤلاء - أعظم مما يحتاجون إلى مناظرة الشيعة ; فإن هؤلاء أصدق وأدين ، والشبه [38] التي يحتجون بها أعظم من الشبه [39] التي تحتج بها الشيعة ، كما أن المسلمين يحتاجون في أمر المسيح صلوات الله وسلامه عليه إلى مناظرة اليهود والنصارى ، فيحتاجون أن ينفوا عنه ما يرميه به اليهود من أنه كاذب ولد زنا ، وإلى نفي ما تدعيه النصارى من الإلهية ، وجدل اليهود أشد من جدل النصارى ، ولهم شبه لا يقدر النصارى أن يجيبوهم عنها ، وإنما يجيبهم عنها المسلمون . كما أن للنواصب شبها [40] [ ص: 48 ] لا يمكن الشيعة أن يجيبوا عنها ، وإنما يجيبهم عنها أهل السنة .

                  فهذه الأحاديث الصحيحة المثبتة لإيمان علي باطنا وظاهرا رد على هؤلاء ، وإن لم يكن ذلك من خصائصه ، كالنصوص الدالة على إيمان أهل بدر وبيعة الرضوان باطنا وظاهرا ; فإن فيها ردا على من ينازع في ذلك من الروافض والخوارج ، وإن لم يكن ما يستدل به من خصائص واحد منهم . وإذا شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعين بشهادة ، أو دعا له بدعاء ؛ أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل [41] ذلك الدعاء ، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشهد بذلك لخلق كثير ، ويدعو به لخلق كثير وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه . وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس بن شماس [42] وعبد الله بن سلام [43] ، وغيرهما . وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين . والشهادة بمحبة الله [ ص: 49 ] ورسوله لعبد الله حمار الذي ضرب في الخمر [44] ، وإن شهد بذلك لمن هو أفضل منه ، وكشهادته لعمرو بن تغلب بأنه ممن لا يعطيه لما في قلبه من الغنى والخير لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " إني لأعطي رجالا وأدع رجالا ، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ، أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير ، منهم عمرو بن تغلب [45] .

                  وفي الحديث الصحيح لما صلى على ميت [46] قال : " اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعف عنه ، وأكرم منزله ، ووسع [47] مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبرد [48] ، ونقه من الذنوب والخطايا [49] كما ينقى [50] الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره ، وأهلا خيرا من أهله ، وقه فتنة القبر وعذاب النار ، وأفسح له في قبره ، ونور له فيه " . قال عوف بن [ ص: 50 ] مالك فتمنيت أن أكون أنا [51] ذلك الميت [52] . وهذا الدعاء ليس مختصا بذلك الميت .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية