[ ص: 126 ] فصل
وقد ذكرنا في غير هذا الموضوع حكم الناس في الوعد والوعيد والثواب والعقاب ، وأن تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب . فإذا كان هذا الحكم في المجتهدين وهذا الحكم في المذنبين حكما عاما في جميع الأمة ، فكيف في فاعل السيئات أصحاب [1] رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا كان المتأخرون من المجتهدين ومن المذنبين [2] يندفع عنهم الذم والعقاب بما ذكر من الأسباب ، فكيف بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ؟ .
ونحن نبسط هذا وننبه بالأدنى على الأعلى ؛ فنقول : كلام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصحابة - من رافضي وغيره - هو من باب الكلام في الأعراض ، وفيه حق لله تعالى ، لما يتعلق به من الولاية والعداوة والحب والبغض ، وفيه حق للآدميين أيضا [3] .
ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة ، مثل الملوك المختلفين على الملك ، والعلماء والمشايخ المختلفين في [4] العلم والدين ، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم ; فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال . والظلم محرم مطلقا ، لا يباح قط بحال .
قال تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [ ص: 127 ] [ سورة المائدة : 8 ] وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار ، وهو بغض مأمور به . فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه [5] ، فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس ؟ فهو أحق أن لا يظلم ، بل يعدل عليه [6] .
وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق من عدل عليهم في القول والعمل . والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته ، والثناء على أهله ومحبتهم . والظلم مما اتفقوا [7] على بغضه وذمه [8] وتقبيحه ، وذم أهله وبغضهم ، وليس المقصود الكلام في التحسين والتقبيح العقلي ، فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضوع في مصنف مفرد [9] ، ولكن المقصود أن باتفاق أهل الأرض ، وهو محبوب في النفوس ، مركوز حبه في القلوب ، تحبه القلوب وتحمده ، وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب ، والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه . العدل محمود محبوب
. قال الله تعالى : والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ سورة الحديد : 25 ] [10] . وقال تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان [ ص: 128 ] [ سورة الشورى : 17 ] . وقال تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [ سورة النساء : 58 ] .
وقال : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين [ سورة المائدة : 42 ] .
وقال : فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق [ سورة المائدة : 48 ] فأمره أن يحكم بالقسط وأن يحكم بما أنزل الله ، فدل ذلك على أن القسط هو ما أنزل الله ، فما أنزل الله هو القسط ، والقسط هو ما أنزل الله .
ولهذا وجب على كل من حكم بين اثنين أن يحكم بالعدل لقوله تعالى : وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [ سورة النساء : 58 ] فليس لحاكم أن يحكم بظلم أبدا ، والشرع الذي يجب على حكام المسلمين الحكم به عدل كله ، ليس في الشرع ظلم أصلا ، بل حكم الله أحسن الأحكام [11] .
والشرع هو ما أنزل الله ; فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل ، لكن ، فيكون العدل في كل شرعة بحسبها . العدل قد يتنوع بتنوع الشرائع والمناهج
ولهذا قال تعالى : [ ص: 129 ] وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ سورة المائدة 42 - 44 ] .
إلى قوله : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ سورة المائدة 47 - 50 ] .
ذكر سبحانه حكم التوراة والإنجيل ، ثم ذكر أنه أنزل القرآن ، وأمر نبيه أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يتبع أهواءهم عما جاءه من الكتاب ، وأخبر أنه جعل لكل واحد من الأنبياء شرعة ومنهاجا فجعل لموسى وعيسى ما في التوراة والإنجيل من الشرعة والمنهاج [12] ، وجعل للنبي - صلى الله عليه [ ص: 130 ] وسلم - ما في القرآن من الشرعة والمنهاج [13] ، وأمره أن يحكم بما أنزل الله ، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله ، وأخبره أن ذلك هو حكم الله ، ومن ابتغى غيره فقد ابتغى حكم الجاهلية ، وقال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ سورة المائدة 44 ] .
ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله [14] فهو كافر ، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل [15] الله فهو كافر ; فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى ، كسوالف البادية ، وكأوامر المطاعين فيهم [16] ، ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة .
وهذا هو الكفر ، فإن كثيرا من الناس أسلموا ، ولكن مع هذا لهم التي يأمر بها المطاعون ، فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك ، بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار ، وإلا كانوا جهالا ، كمن تقدم أمرهم لا يحكمون إلا بالعادات الجارية [17] .
وقد أمر الله ، فقال تعالى : المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله [ ص: 131 ] والرسول ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ سورة النساء 59 ] .
وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ سورة النساء 65 ] فمن لم يلتزم تحكيم [18] الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن ، وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا ، لكن عصى واتبع هواه ، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة .
وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله . وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هنا ، وما ذكرته يدل عليه سياق الآية .
والمقصود أن واجب مطلقا ، في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد ، والحكم بما أنزل الله على الحكم بالعدل محمد - صلى الله عليه وسلم - هو عدل خاص ، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها ، والحكم به واجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل من اتبعه ، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر .
وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية . قال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات [ ص: 132 ] [ سورة البقرة 213 ] .
وقال تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ سورة الشورى 10 ] . وقال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ سورة النساء 59 ] فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ، ليس لأحد أن يلزم الناس [19] بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك .
ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك ، ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر ، وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة ، لا يحكمون في الأمور الكلية ، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله ، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " " القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ; فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ومن علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ، ومن قضى للناس على جهل فهو في النار [20] .
وإذا حكم بعلم وعدل ; فإذا اجتهد فأصاب [21] فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين [22] .
[ ص: 133 ] والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم [23] المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ، ويرد ذلك إلى الله والرسول ، فذاك في أمر الصحابة أظهر . فلو طعن طاعن في بعض ولاة الأمور ، من ملك وحاكم وأمير وشيخ ونحو ذلك ، وجعله كافرا معتديا على غيره في ولاية أو غيرها ، وجعل غيره هو العالم العادل المبرأ من كل خطأ وذنب ، وجعل كل من أحب الأول وتولاه كافرا أو ظالما مستحقا للسب وأخذ يسبه ، فإنه يجب الكلام في ذلك بعلم وعدل .