والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق ، فوالوا بعضهم وغالوا فيه وعادوا بعضهم وغالوا في معاداته وقد يسلك كثير من الناس ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم ، فيحصل بينهم رفض في غير الصحابة : تجد أحد الحزبين يتولى فلانا ومحبيه ، ويبغض فلانا ومحبيه ، وقد يسب ذلك بغير حق .
وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله ، فقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ سورة الأنعام 159 ] . وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ سورة آل عمران 102 - 103 ] .
وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون [ ص: 134 ] [ سورة آل عمران 105 - 107 ] . قال : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة ابن عباس [1] . ولهذا كان وغيره يتأولها في أبو أمامة الباهلي الخوارج .
فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا ، وقد فسر حبله بكتابه ، وبدينه ، وبالإسلام ، وبالإخلاص ، وبأمره ، وبعهده ، وبطاعته ، وبالجماعة . وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وكلها صحيحة [2] ; فإن . القرآن يأمر بدين الإسلام ، وذلك هو عهده وأمره وطاعته ، والاعتصام به جميعا إنما يكون في الجماعة ، ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله
وفي صحيح عن مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أبي هريرة إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم [3] " .
[ ص: 135 ] : أحيائهم وأمواتهم ، وحرم دماءهم وأموالهم وأعراضهم . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حجة الوداع : " والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا . ألا هل بلغت ، ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب مبلغ أوعى من سامع [4] " .
وقد قال تعالى : والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا [ سورة الأحزاب 58 ] فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك ، فقد دخل في هذه الآية ، ومن كان مجتهدا لا إثم عليه ، فإذا آذاه مؤذ [5] فقد آذاه بغير ما اكتسب ، ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه ، أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ ، فقد آذاه بغير ما اكتسب ، وإن حصل له بفعله مصيبة .
ولما موسى آدم [6] ، وقال : لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال آدم : بكم وجدت مكتوبا علي قبل أن أخلق : وعصى آدم ربه فغوى [ سورة طه 121 ] قال : بأربعين سنة . قال : فحج آدم موسى . وهذا الحديث ثابت في الصحيحين حاج [7] ، لكن غلط كثير من الناس في معناه ، فظنوا أن آدم احتج بالقدر على أن الذنب [8] لا يلام عليه ، ثم تفرقوا بعد هذا : بين مكذب بلفظه ومتأول لمعناه تأويلات فاسدة . وهذا فهم [ ص: 136 ] فاسد وخطأ عظيم ، لا يجوز أن يظن بأقل الناس علما وإيمانا ; أن يظن أن كل من أذنب فلا ملام عليه لكون الذنب مقدرا عليه ، وهو يسمع ما أخبر الله به في القرآن من تعذيبه لقوم نوح وعاد وثمود ، وقوم فرعون ومدين ، وقوم لوط [9] وغيرهم .
، فلو كان المذنب معذورا لم يعذب هؤلاء على ذنوبهم ، وهو يعلم ما أرسل الله به رسله والقدر شامل لجميع الخلق محمدا وغيره من عقوبات المعتدين ، كما في التوراة والقرآن [10] ، وما أمر الله به من إقامة الحدود على المفسدين ، ومن قتال الكافرين ، وما شرعه الله من إنصاف المظلومين من الظالمين ، وما يقضي به يوم القيامة بين عباده من عقوبة الكفار [11] ، والاقتصاص للمظلوم من الظالم . وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع .
لكن مقصود الحديث أن ما يصيب العبد من المصائب فهي مقدرة عليه ، ينبغي أن يسلم لقدر الله . كما قال تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ سورة التغابن 11 ] . قال علقمة : هو الرجل [12] تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم . وروى الوالبي عن : يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وقال ابن عباس ابن السائب وابن قتيبة : إنه إذا ابتلي ، صبر وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر .
[ ص: 137 ] وإن كانت المصيبة بسبب فعل الأب أو الجد ، فإن آدم قد تاب من الأكل ، فما بقي عليه ملام للتوبة ، والمصيبة كانت مقدرة ، فلا معنى للوم آدم عليها ، فليس للإنسان أن يؤذي مؤمنا جرى له على يديه [13] ما هو مصيبة في حقه .
والمؤمن إما معذور وإما مغفور له . ولا ريب أن كثيرا ممن حصل له مصيبة [14] أو فوات غرض ببعض الماضين يسرع بذمه ، كما يظن [15] بعض الرافضة أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهم كانوا هم السبب في منع حقهم ظلما ، وهذا كذب عليهم . أو يقولون : بسببهم ظلمنا غيرهم ، وهذا عدوان عليهم ; فإن القوم كانوا عادلين متبعين لأمر الله ورسوله . وعثمان
ومن أصابته مصيبة بسبب ما جاء به الرسول فبذنوبه أصيب ، فليس لأحد أن يعيب الرسول وما جاء به ، لكونه فيه [16] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المنافقين ، أو لكونه بسبب تقديمه أبا بكر قدمهما المسلمون بعده ، كما يذكر عن بعض وعمر الرافضة أنه آذى الله ورسوله بسبب تقديم الله ورسوله [17] . ( * لأبي بكر . وعمر
وعن بعضهم أنهم مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتوا على فضائل ، فلما سمعها قال [ ص: 138 ] لأصحابه : تعلمون والله بلاءكم من صاحب هذا القبر ، يقول : مروا أبي بكر فليصل بالناس ، لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر أبا بكر . كانوا يقرءون شيئا من الحديث في
وهذا كما أنه ليس لأحد * ) [18] أن يقول بسبب نزول القرآن بلسان العرب [19] اختلفت الأمة في التأويل واقتتلوا ، إلى أمثال هذه الأمور التي يجعل الشر الواقع فيها بسبب ما جاء به الرسول ; فإن هذا كله باطل ، وهو من كلام الكفار .
قال تعالى عن الكفار الذين قالوا [20] لرسلهم : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون [ سورة يس 18 - 19 ] .
وقال عن قوم فرعون : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله [ سورة الأعراف 131 ] .
وقال لما ذكر الأمر بالجهاد وأن من الناس من يبطئ عنه أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ سورة النساء 78 - 79 ] .
[ ص: 139 ] والمراد بالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب ، كما قد سمى الله ذلك حسنات وسيئات في غير هذا الموضع من القرآن كقوله : وبلوناهم بالحسنات والسيئات [ سورة الأعراف 168 ] وقوله : إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون [ سورة التوبة 50 ] .
ولهذا قال : ما أصابك ولم يقل : ما أصبت . وهكذا قال السلف . ففي رواية أبي صالح [21] عن : أن الحسنة : الخصب ابن عباس [22] والمطر ، والسيئة : الجدب والغلاء . وفي رواية الوالبي عنه : أن الحسنة : الفتح والغنيمة ، والسيئة الهزيمة والجراح ونحو ذلك [23] . وقال في هذه الرواية : ما أصابك من حسنة : ما فتح الله عليه يوم بدر ، والسيئة ما أصابه يوم أحد . وكذلك قال : الحسنة : الغنيمة والنعمة ابن قتيبة [24] ، والسيئة البلية . وروي ذلك عن أبي العالية ، وروي عنه أن الحسنة : الطاعة ، والسيئة : المعصية .
وهذا يظنه طائفة من المتأخرين ، ثم اختلف هؤلاء ، فقال مثبتة القدر هذا حجة لنا ، لقوله سبحانه : قل كل من عند الله [ سورة النساء 78 ] . وقال نفاته : بل هو حجة لنا لقوله : وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ سورة النساء 79 ] . وحجة كل فريق تدل على فساد قول الآخر . والقولان [ ص: 140 ] باطلان في هذه الآية ; فإن المراد : النعم والمصائب ولهذا قال : وإن تصبهم والضمير قد قيل : إنه يعود على المنافقين ، وقيل : على اليهود ، وقيل : على الطائفتين .