الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين . ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا ، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه ، وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما ، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة .

                  ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم [1] ، فإذا تشاجر مسلمان في قضية ، ومضت ولا تعلق للناس بها ، ولا يعرفون حقيقتها ، كان كلامهم فيها كلاما [2] بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما [3] بغير حق ، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان ، لكان ذكر ذلك [ ص: 147 ] من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة .

                  لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين [4] أعظم حرمة ، وأجل قدرا ، وأنزه أعراضا . وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم ، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم .

                  فإن قيل : فأنتم في هذا المقام [5] تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم .

                  قيل : ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواعا كثيرة ، كقوله : " لعن الله الخمر وشاربها ، وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وبائعها وآكل ثمنها [6] " و " لعن الله آكل الربا وموكله ، وكاتبه وشاهديه " [7] ، و " لعن الله من غير منار الأرض " [8] وقال : " المدينة [ ص: 148 ] حرم [9] ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا ، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " [10] .

                  وقال : " لعن الله من عمل عمل قوم لوط " [11] وقال : " لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء " [12] وقال : " من ادعى إلى غير [13] أبيه ، [ ص: 149 ] أو تولى [14] غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " [15] .

                  وقال الله تعالى في القرآن : أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا [ سورة الأعراف : 44 - 45 ] .

                  فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم ، تحذيرا من ذلك الفعل ، وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد .

                  ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص [ يتوب منها ، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب ] [16] لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة ، وكفروا من لم يوافقهم عليها ، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة ، الذين يعلمون أن الظلم محرم ، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف ، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 150 ] بقتالهم ، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة ، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة .

                  فقال : في الخوارج : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وقراءته مع قراءتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم " [17] .

                  وقال في بعضهم : " يقتلون أهل الإيمان : ويدعون أهل الأوثان " [18] .

                  وقال للأنصار : " إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض " [19] أي تلقون من يستأثر عليكم بالمال ولا ينصفكم ، فأمرهم بالصبر ، ولم يأذن لهم في قتالهم .

                  وقال أيضا : " سيكون عليكم بعدي أمراء يطلبون منكم حقكم ويمنعونكم حقهم " . قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : " أدوا إليهم [ ص: 151 ] حقهم وسلوا الله حقكم " [20] .

                  وقال : " من رأى من أميره شيئا فليصبر عليه ; فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه " [21] .

                  وقال : " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية " [22] .

                  وقال : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم " . قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما صلوا " [23] .

                  وهذه الأحاديث كلها في الصحيح ، إلى أحاديث أمثالها .

                  فهذا أمره بقتال الخوارج ، وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة . وهذا مما يستدل به على أنه ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله .

                  ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي [24] يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا [25] ، يقاتله [26] الناس حتى يعطيهم المال والولايات ، وحتى لا يظلمهم ، فلم يكن أصل قتالهم ليكون الدين كله لله ، ولتكون كلمة الله هي العليا ، ولا كان قتالهم من جنس قتال المحاربين قطاع الطريق ، الذين قال فيهم [27] : " من قتل دون ماله فهو [ ص: 152 ] شهيد ، ومن قتل دون [ دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون ] [28] حرمته فهو شهيد " [29] لأن أولئك معادون لجميع الناس ، وجميع الناس يعينون على قتالهم ، ولو قدر أنه ليس كذلك العداوة والحرب ، فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل والأخذ ، بل هم بالقتال يريدون أن يأخذوا أموال الناس ودماءهم ، فهم مبتدءون الناس بالقتال ، بخلاف ولاة الأمور فإنهم لا يبتدءون بالقتال للرعية .

                  وفرق بين [30] من تقاتله دفعا وبين من تقاتله ابتداء . ولهذا هل يجوز في حال الفتنة قتال الدفع ؟ فيه عن أحمد روايتان لتعارض الآثار والمعاني .

                  وبالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال والإمارة ، وهذا قتال على الدنيا .

                  [ ص: 153 ] ولهذا قال أبو برزة الأسلمي عن فتنة ابن الزبير ، وفتنة القراء مع الحجاج ، وفتنة مروان بالشام : هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا ، وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس ، فقتالهم قتال على [31] الدين .

                  والمقصود بقتالهم أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله . فلهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا ، ونهى عن ذلك .

                  ولهذا كان قتال علي رضي الله عنه للخوارج [32] ثابتا بالنصوص الصريحة ، وبإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وسائر علماء المسلمين . وأما قتال الجمل وصفين فكان قتال فتنة ، كرهه فضلاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء ، كما دلت عليه النصوص . حتى الذين حضروه كانوا كارهين له ، فكان كارهه في الأمة أكثر وأفضل من حامده .

                  وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم مالا فجاء ذو الخويصرة التميمي ، وهو محلوق الرأس ، كث اللحية ، ناتئ الجبين ، بين عينيه أثر السجود ، فقال : يا محمد اعدل فإنك لم تعدل . فقال : " ويحك ومن [33] يعدل إذا لم أعدل ؟ " ثم قال : أيأمنني [34] من في السماء ولا تأمنوني [35] ؟ " فقال له : بعض الصحابة : دعني [ ص: 154 ] أضرب عنقه . فقال : " يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم " الحديث [36] .

                  فهذا كلامه في هؤلاء العباد لما كانوا مبتدعين . وثبت عنه في الصحيح أن رجلا كان يشرب الخمر ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أتي به إليه جلده الحد ، فأتي به إليه مرة فلعنه رجل ، وقال : ما أكثر ما يؤتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا تلعنه ; فإنه يحب الله ورسوله " [37] فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر ، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله ، مع لعنة شارب الخمر عموما .

                  فعلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين ، وعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم أخف ضررا على المسلمين من أمر أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم .

                  والرافضة أشد بدعة من الخوارج ، وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره ، كأبي بكر وعمر ، ويكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله ، والخوارج لا يكذبون ، لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع منهم ، وأوفى بالعهد منهم ، فكانوا أكثر قتالا منهم ، وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر وأذل .

                  [ ص: 155 ] وهم يستعينون بالكفار على المسلمين ، فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين ، كما جرى لجنكزخان [38] ملك التتر [39] الكفار ، فإن الرافضة أعانته على المسلمين [40] .

                  وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد ، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا وباطنا [41] ، وكان وزير الخليفة ببغداد [42] الذي يقال له ابن العلقمي منهم [43] ، فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ، ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم ، وينهى العامة عن قتالهم ، ويكيد أنواعا من الكيد ، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال : إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان ، أو أكثر أو أقل ، ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر ، وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين [44] ، فهل يكون مواليا لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين ؟ .

                  [ ص: 156 ] وهم يكذبون على الحجاج وغيره أنه قتل الأشراف ، ولم يقتل الحجاج هاشميا قط ، مع ظلمه وغشمه ; فإن عبد الملك نهاه عن ذلك ، وإنما قتل ناسا من أشراف العرب غير بني هاشم ، وقد تزوج هاشمية ، وهي بنت عبد الله بن جعفر ، فما مكنه بنو أمية من ذلك ، وفرقوا بينه وبينها وقالوا : ليس الحجاج كفوا لشريفة هاشمية .

                  وكذلك من كان [45] بالشام من الرافضة الذين لهم كلمة أو سلاح يعينون الكفار من المشركين ومن النصارى [46] أهل الكتاب على المسلمين ، على قتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم .

                  والخوارج ما عملت من هذا شيئا ، بل كانوا هم [47] يقاتلون الناس ، لكن ما كانوا يسلطون الكفار من المشركين وأهل الكتاب على المسلمين .

                  [ ص: 157 ] ودخل في الرافضة من الزنادقة المنافقين [48] : الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم ممن [49] لم يكن يجترئ أن يدخل عسكر الخوارج ، لأن الخوارج كانوا عبادا متورعين ، كما قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم : " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم [ وصيامه مع صيامهم ] " [50] الحديث [51] ، فأين هؤلاء الرافضة من الخوارج ؟ .

                  والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد ، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء ، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين ، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة . والزيدية من الشيعة خير منهم : أقرب إلى الصدق والعدل والعلم [52] ، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج ، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم ; فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم ، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض ، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض .

                  وهذا مما يعترفون هم به ، ويقولون : أنتم تنصفوننا [53] ما لا ينصف [ ص: 158 ] بعضنا بعضا . وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم ، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين ، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس . ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض .

                  والخوارج تكفر أهل الجماعة ، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم وكذلك أكثر الرافضة ومن لم يكفر فسق . وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ، ويكفرون [54] من خالفهم فيه ، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ، ولا يكفرون من خالفهم فيه ، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق ، كما وصف الله به المسلمين بقوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران 110 ] . قال أبو هريرة : كنتم خير الناس للناس [55] .

                  وأهل السنة نقاوة المسلمين ، فهم خير الناس للناس . وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير ، فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ، ويأخذون أموالهم ، وقتلوا خلقا عظيما وأخذوا أموالهم ، ولما انكسر المسلمون سنة غازان [56] ، أخذوا الخيل والسلاح [ ص: 159 ] والأسرى [57] وباعوهم للكفار النصارى [58] بقبرص ، وأخذوا من مر بهم من الجند ، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء ، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى ، وقالوا له : أيما [59] خير : المسلمون أو النصارى ؟ فقال : بل النصارى . فقالوا له : مع من تحشر يوم القيامة ؟ فقال : مع النصارى . وسلموا إليهم [60] بعض بلاد المسلمين .

                  [ ص: 160 ] ومع هذا فلما استشار بعض [61] ولاة الأمر في غزوهم ، وكتبت جوابا مبسوطا في غزوهم ، وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم ، وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها ، فلما فتح المسلمون بلدهم [62] ، وتمكن المسلمون منهم ، نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم [63] ، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا .

                  فما أذكره في هذا الكتاب من [64] ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم ، ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله .

                  ومصنف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة ، إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم : سلفها وخلفها ; فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين ، وإلى خيار أمة أخرجت للناس ، فجعلوهم شرار الناس ، وافتروا عليهم العظائم ، وجعلوا حسناتهم سيئات [65] ، وجاءوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء وهم الرافضة بأصنافها : غاليها وإماميها وزيديها والله يعلم ، وكفى بالله عليما [66] ، ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم : لا أجهل ولا أكذب ، ولا أظلم ، ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان ، وأبعد عن حقائق [ ص: 161 ] الإيمان منهم ، فزعموا أن هؤلاء هم صفوة الله من عباده ; فإن ما سوى أمة محمد كفار ، وهؤلاء كفروا الأمة كلها أو ضللوها ، سوى طائفتهم التي [67] يزعمون أنها الطائفة المحقة ، وأنها لا تجتمع على ضلالة ، فجعلوهم صفوة بني آدم .

                  فكان مثلهم كمن جاء إلى غنم كثيرة ، فقيل له : أعطنا خير هذه الغنم لنضحي بها ، فعمد إلى شر تلك الغنم : إلى شاة عوراء عجفاء عرجاء مهزولة لا نقى لها [68] ، فقال : هذه خيار هذه الغنم لا تجوز الأضحية إلا بها ، وسائر هذه الغنم ليست غنما ، وإنما هي خنازير يجب قتلها ، ولا تجوز الأضحية [69] بها .

                  وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة " [70] .

                  وهؤلاء الرافضة : إما منافق وإما جاهل ، فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول مع الإيمان به ، فإن مخالفتهم لما جاء [ ص: 162 ] به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى .

                  وشيوخهم المصنفون فيهم طوائف يعلمون أن كثيرا مما يقولونه كذب ، ولكن يصنفون لهم لرياستهم عليهم .

                  وهذا المصنف يتهمه الناس بهذا ، ولكن صنف لأجل أتباعه ; فإن كان أحدهم يعلم أن ما يقوله باطل ويظهره ويقول : إنه حق من عند الله ، فهو من جنس علماء اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون . وإن كان يعتقد أنه حق ، دل ذلك على نهاية جهله وضلاله .


                  فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم



                  وهم في دينهم لهم عقليات وشرعيات ، فالعقليات متأخروهم فيها أتباع المعتزلة ، إلا من تفلسف منهم [71] ، فيكون إما فيلسوفا ، وإما ممتزجا من فلسفة واعتزال ، ويضم إلى ذلك الرفض ، مثل مصنف هذا الكتاب وأمثاله ، فيصيرون بذلك من أبعد الناس عن الله ورسوله ، وعن دين المسلمين [72] المحض .

                  وأما شرعياتهم فعمدتهم فيها على ما ينقل عن بعض أهل البيت [73] ، مثل أبي جعفر الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق وغيرهما .

                  [ ص: 163 ] ولا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين ، وأئمة الدين ، ولأقوالهم من الحرمة والقدر ما يستحقه أمثالهم ، لكن كثير مما ينقل عنهم كذب ، والرافضة لا خبرة لها بالأسانيد ، والتمييز بين الثقات وغيرهم ، بل هم في ذلك من أشباه أهل الكتاب ، كل ما [74] يجدونه في الكتب منقولا عن أسلافهم قبلوه ، بخلاف أهل السنة ; فإن لهم من الخبرة بالأسانيد ما يميزون به بين الصدق والكذب .

                  وإذا صح النقل عن علي بن الحسين [75] فله أسوة نظراؤه كالقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله وغيرهما ، كما كان علي بن أبي طالب مع سائر الصحابة . وقد قال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ سورة النساء : 59 ] . فأمر برد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول .

                  والرافضة لا تعتني بحفظ القرآن ، ومعرفة معانيه وتفسيره ، وطلب الأدلة الدالة على معانيه . ولا تعتني أيضا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة صحيحه من سقيمه ، والبحث عن معانيه ، ولا تعتني بآثار الصحابة والتابعين ، حتى تعرف مآخذهم ومسالكهم ، ويرد [76] ما [ ص: 164 ] تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، بل عمدتها آثار تنقل عن بعض أهل البيت فيها صدق وكذب .

                  وقد أصلت لها ثلاثة أصول : أحدها : أن كل واحد من هؤلاء إمام معصوم بمنزلة النبي ، لا يقول إلا حقا ولا يجوز لأحد أن يخالفه ، ولا يرد ما ينازعه فيه غيره إلى الله والرسول ، فيقولون عنه ما كان هو وأهل بيته يتبرءون منه .

                  والثاني : أن كل ما يقوله واحد من هؤلاء فإنه قد علم منه أنه قال : أنا أنقل كل ما أقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويا ليتهم قنعوا بمراسيل التابعين كعلي بن الحسين ، بل يأتون إلى من تأخر زمانه كالعسكريين فيقولون : كل ما قاله واحد من أولئك فالنبي قد قاله .

                  وكل من له عقل يعلم أن العسكريين بمنزلة أمثالهما ممن كان في زمانهما من الهاشميين ، ليس عندهم من العلم ما يمتازون به عن غيرهم ، ويحتاج إليهم فيه أهل العلم ، ولا كان أهل العلم يأخذون عنهم ، كما يأخذون عن علماء زمانهم ، وكما كان أهل العلم في زمن علي بن الحسين ، وابنه أبي جعفر ، وابن ابنه جعفر بن محمد ; فإن هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم قد أخذ أهل العلم عنهم ، كما كانوا يأخذون [ ص: 165 ] عن أمثالهم ، بخلاف العسكريين ونحوهما [77] ; فإنه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئا ، فيريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع العالمين ، بمنزلة القرآن والمتواتر من السنن . وهذا مما لا يبني عليه دينه إلا من كان من أبعد الناس عن طريقة أهل العلم والإيمان .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية