ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم [1] ، فإذا تشاجر مسلمان في قضية ، ومضت ولا تعلق للناس بها ، ولا يعرفون حقيقتها ، كان كلامهم فيها كلاما [2] بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما [3] بغير حق ، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان ، لكان ذكر ذلك [ ص: 147 ] من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة .
لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين [4] أعظم حرمة ، وأجل قدرا ، وأنزه أعراضا . وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم ، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم .
فإن قيل : فأنتم في هذا المقام [5] تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم .
قيل : ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواعا كثيرة ، كقوله : " لعن الله الخمر وشاربها ، وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وبائعها وآكل ثمنها [6] " و " " لعن الله آكل الربا وموكله ، وكاتبه وشاهديه [7] ، و " " لعن الله من غير منار الأرض [8] وقال : " المدينة [ ص: 148 ] حرم [9] ما بين عير إلى ثور ، فمن أحدث فيها حدثا ، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " [10] .
وقال : " قوم لوط " لعن الله من عمل عمل [11] وقال : " " لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء [12] وقال : " [13] أبيه ، [ ص: 149 ] أو تولى [14] غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا " من ادعى إلى غير [15] .
وقال الله تعالى في القرآن : أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا [ سورة الأعراف : 44 - 45 ] .
فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم ، تحذيرا من ذلك الفعل ، وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد .
ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص [ يتوب منها ، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب ] [16] لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة ، وكفروا من لم يوافقهم عليها ، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة ، الذين يعلمون أن الظلم محرم ، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف ، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 150 ] بقتالهم ، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة ، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة .
فقال : في الخوارج : " " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وقراءته مع قراءتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم [17] .
وقال في بعضهم : " " يقتلون أهل الإيمان : ويدعون أهل الأوثان [18] .
وقال للأنصار : " " إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض [19] أي تلقون من يستأثر عليكم بالمال ولا ينصفكم ، فأمرهم بالصبر ، ولم يأذن لهم في قتالهم .
وقال أيضا : " " سيكون عليكم بعدي أمراء يطلبون منكم حقكم ويمنعونكم حقهم " . قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : " أدوا إليهم [ ص: 151 ] حقهم وسلوا الله حقكم [20] .
وقال : " " من رأى من أميره شيئا فليصبر عليه ; فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه [21] .
وقال : " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية " [22] .
وقال : " " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم " . قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما صلوا [23] .
وهذه الأحاديث كلها في الصحيح ، إلى أحاديث أمثالها .
فهذا أمره بقتال الخوارج ، وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة . وهذا مما يستدل به على أنه . ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله
ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي [24] يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا [25] ، يقاتله [26] الناس حتى يعطيهم المال والولايات ، وحتى لا يظلمهم ، فلم يكن أصل قتالهم ليكون الدين كله لله ، ولتكون كلمة الله هي العليا ، ولا كان قتالهم من جنس قتال المحاربين قطاع الطريق ، الذين قال فيهم [27] : " [28] حرمته فهو شهيد " من قتل دون ماله فهو [ ص: 152 ] شهيد ، ومن قتل دون [ دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون ] [29] لأن أولئك معادون لجميع الناس ، وجميع الناس يعينون على قتالهم ، ولو قدر أنه ليس كذلك العداوة والحرب ، فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل والأخذ ، بل هم بالقتال يريدون أن يأخذوا أموال الناس ودماءهم ، فهم مبتدءون الناس بالقتال ، بخلاف ولاة الأمور فإنهم لا يبتدءون بالقتال للرعية .
وفرق بين [30] من تقاتله دفعا وبين من تقاتله ابتداء . ولهذا ؟ فيه عن هل يجوز في حال الفتنة قتال الدفع روايتان لتعارض الآثار والمعاني . أحمد
وبالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال والإمارة ، وهذا قتال على الدنيا .
[ ص: 153 ] ولهذا قال عن فتنة أبو برزة الأسلمي ، وفتنة القراء مع ابن الزبير ، وفتنة الحجاج مروان بالشام : هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا ، وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس ، فقتالهم قتال على [31] الدين .
والمقصود بقتالهم أن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله . فلهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا ، ونهى عن ذلك .
ولهذا كان رضي الله عنه علي للخوارج قتال [32] ثابتا بالنصوص الصريحة ، وبإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وسائر علماء المسلمين . وأما قتال الجمل وصفين فكان قتال فتنة ، كرهه فضلاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء ، كما دلت عليه النصوص . حتى الذين حضروه كانوا كارهين له ، فكان كارهه في الأمة أكثر وأفضل من حامده .
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه ذو الخويصرة التميمي ، وهو محلوق الرأس ، كث اللحية ، ناتئ الجبين ، بين عينيه أثر السجود ، فقال : يا محمد اعدل فإنك لم تعدل . فقال : " ويحك ومن [33] يعدل إذا لم أعدل ؟ " ثم قال : أيأمنني [34] من في السماء ولا تأمنوني [35] ؟ " فقال له : بعض الصحابة : دعني [ ص: 154 ] أضرب عنقه . فقال : " يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم " الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم مالا فجاء [36] .
فهذا كلامه في هؤلاء العباد لما كانوا مبتدعين . وثبت عنه في الصحيح " أن رجلا كان يشرب الخمر ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أتي به إليه جلده الحد ، فأتي به إليه مرة فلعنه رجل ، وقال : ما أكثر ما يؤتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا تلعنه ; فإنه يحب الله ورسوله [37] فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر ، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله ، مع لعنة شارب الخمر عموما .
فعلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين ، وعلم أن . أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم أخف ضررا على المسلمين من أمر أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم
والرافضة أشد بدعة من الخوارج ، وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره ، كأبي بكر ، ويكذبون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمر والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله ، والخوارج لا يكذبون ، لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع منهم ، وأوفى بالعهد منهم ، فكانوا أكثر قتالا منهم ، وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر وأذل .
[ ص: 155 ] وهم يستعينون بالكفار على المسلمين ، فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين ، كما جرى لجنكزخان [38] ملك التتر [39] الكفار ، فإن الرافضة أعانته على المسلمين [40] .
وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد ، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا وباطنا [41] ، وكان وزير الخليفة ببغداد [42] الذي يقال له ابن العلقمي منهم [43] ، فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ، ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم ، وينهى العامة عن قتالهم ، ويكيد أنواعا من الكيد ، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال : إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان ، أو أكثر أو أقل ، ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر ، وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين [44] ، فهل يكون مواليا لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين ؟ .
[ ص: 156 ] وهم يكذبون على وغيره أنه قتل الأشراف ، ولم يقتل الحجاج هاشميا قط ، مع ظلمه وغشمه ; فإن الحجاج نهاه عن ذلك ، وإنما قتل ناسا من أشراف العرب غير عبد الملك بني هاشم ، وقد تزوج هاشمية ، وهي بنت عبد الله بن جعفر ، فما مكنه بنو أمية من ذلك ، وفرقوا بينه وبينها وقالوا : ليس كفوا لشريفة هاشمية . الحجاج
وكذلك من كان [45] بالشام من الرافضة الذين لهم كلمة أو سلاح يعينون الكفار من المشركين ومن النصارى [46] أهل الكتاب على المسلمين ، على قتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم .
والخوارج ما عملت من هذا شيئا ، بل كانوا هم [47] يقاتلون الناس ، لكن ما كانوا يسلطون الكفار من المشركين وأهل الكتاب على المسلمين .
[ ص: 157 ] ودخل في الرافضة من الزنادقة المنافقين [48] : الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم ممن [49] لم يكن يجترئ أن يدخل عسكر الخوارج ، لأن الخوارج كانوا عبادا متورعين ، كما قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم : " " يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم [ وصيامه مع صيامهم ] [50] الحديث [51] ، فأين هؤلاء الرافضة من الخوارج ؟ .
والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد ، لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء ، فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين ، والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة . والزيدية من الشيعة خير منهم : أقرب إلى الصدق والعدل والعلم [52] ، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج ، ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم ; فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم ، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض ، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض .
وهذا مما يعترفون هم به ، ويقولون : أنتم تنصفوننا [53] ما لا ينصف [ ص: 158 ] بعضنا بعضا . وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم ، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين ، فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس . ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض .
والخوارج تكفر أهل الجماعة ، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم وكذلك أكثر الرافضة ومن لم يكفر فسق . وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ، ويكفرون [54] من خالفهم فيه ، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ، ولا يكفرون من خالفهم فيه ، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق ، كما وصف الله به المسلمين بقوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران 110 ] . قال : كنتم خير الناس للناس أبو هريرة [55] .
، فهم خير الناس للناس . وقد علم أنه كان بساحل وأهل السنة نقاوة المسلمين الشام جبل كبير ، فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ، ويأخذون أموالهم ، وقتلوا خلقا عظيما وأخذوا أموالهم ، ولما انكسر المسلمون سنة غازان [56] ، أخذوا الخيل والسلاح [ ص: 159 ] والأسرى [57] وباعوهم للكفار النصارى [58] بقبرص ، وأخذوا من مر بهم من الجند ، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء ، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى ، وقالوا له : أيما [59] خير : المسلمون أو النصارى ؟ فقال : بل النصارى . فقالوا له : مع من تحشر يوم القيامة ؟ فقال : مع النصارى . وسلموا إليهم [60] بعض بلاد المسلمين .
[ ص: 160 ] ومع هذا فلما استشار بعض [61] ولاة الأمر في غزوهم ، وكتبت جوابا مبسوطا في غزوهم ، وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم ، وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها ، فلما فتح المسلمون بلدهم [62] ، وتمكن المسلمون منهم ، نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم [63] ، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا .
فما أذكره في هذا الكتاب من [64] ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم ، ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله .
ومصنف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة ، إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم : سلفها وخلفها ; فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين ، وإلى خيار أمة أخرجت للناس ، فجعلوهم شرار الناس ، وافتروا عليهم العظائم ، وجعلوا حسناتهم سيئات [65] ، وجاءوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء وهم الرافضة بأصنافها : غاليها وإماميها وزيديها والله يعلم ، وكفى بالله عليما [66] ، ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم : لا أجهل ولا أكذب ، ولا أظلم ، ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان ، وأبعد عن حقائق [ ص: 161 ] الإيمان منهم ، فزعموا أن هؤلاء هم صفوة الله من عباده ; فإن ما سوى أمة محمد كفار ، وهؤلاء كفروا الأمة كلها أو ضللوها ، سوى طائفتهم التي [67] يزعمون أنها الطائفة المحقة ، وأنها لا تجتمع على ضلالة ، فجعلوهم صفوة بني آدم .
فكان مثلهم كمن جاء إلى غنم كثيرة ، فقيل له : أعطنا خير هذه الغنم لنضحي بها ، فعمد إلى شر تلك الغنم : إلى شاة عوراء عجفاء عرجاء مهزولة لا نقى لها [68] ، فقال : هذه خيار هذه الغنم لا تجوز الأضحية إلا بها ، وسائر هذه الغنم ليست غنما ، وإنما هي خنازير يجب قتلها ، ولا تجوز الأضحية [69] بها .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة [70] .
وهؤلاء الرافضة : إما منافق وإما جاهل ، لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول مع الإيمان به ، فإن مخالفتهم لما جاء [ ص: 162 ] به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى . فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -
وشيوخهم المصنفون فيهم طوائف يعلمون أن كثيرا مما يقولونه كذب ، ولكن يصنفون لهم لرياستهم عليهم .
وهذا المصنف يتهمه الناس بهذا ، ولكن صنف لأجل أتباعه ; فإن كان أحدهم يعلم أن ما يقوله باطل ويظهره ويقول : إنه حق من عند الله ، فهو من جنس علماء اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون . وإن كان يعتقد أنه حق ، دل ذلك على نهاية جهله وضلاله .
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وهم في دينهم لهم عقليات وشرعيات ، فالعقليات متأخروهم فيها أتباع المعتزلة ، إلا من تفلسف منهم [71] ، فيكون إما فيلسوفا ، وإما ممتزجا من فلسفة واعتزال ، ويضم إلى ذلك الرفض ، مثل مصنف هذا الكتاب وأمثاله ، فيصيرون بذلك من أبعد الناس عن الله ورسوله ، وعن دين المسلمين [72] المحض .
وأما شرعياتهم فعمدتهم فيها على ما ينقل عن بعض أهل البيت [73] ، مثل أبي جعفر الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق وغيرهما .
[ ص: 163 ] ولا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين ، وأئمة الدين ، ولأقوالهم من الحرمة والقدر ما يستحقه أمثالهم ، لكن كثير مما ينقل عنهم كذب ، والرافضة لا خبرة لها بالأسانيد ، والتمييز بين الثقات وغيرهم ، بل هم في ذلك من أشباه أهل الكتاب ، كل ما [74] يجدونه في الكتب منقولا عن أسلافهم قبلوه ، بخلاف أهل السنة ; فإن لهم من الخبرة بالأسانيد ما يميزون به بين الصدق والكذب .
وإذا صح النقل عن علي بن الحسين [75] فله أسوة نظراؤه كالقاسم بن محمد ، وغيرهما ، كما كان وسالم بن عبد الله مع سائر علي بن أبي طالب الصحابة . وقد قال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ سورة النساء : 59 ] . فأمر برد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول .
والرافضة لا تعتني بحفظ القرآن ، ومعرفة معانيه وتفسيره ، وطلب الأدلة الدالة على معانيه . ولا تعتني أيضا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة صحيحه من سقيمه ، والبحث عن معانيه ، ولا تعتني بآثار الصحابة والتابعين ، حتى تعرف مآخذهم ومسالكهم ، ويرد [76] ما [ ص: 164 ] تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، بل عمدتها آثار تنقل عن بعض أهل البيت فيها صدق وكذب .
: أحدها : أن كل واحد من هؤلاء إمام معصوم بمنزلة النبي ، لا يقول إلا حقا ولا يجوز لأحد أن يخالفه ، ولا يرد ما ينازعه فيه غيره إلى الله والرسول ، فيقولون عنه ما كان هو وأهل بيته يتبرءون منه . وقد أصلت لها ثلاثة أصول
والثاني : أن كل ما يقوله واحد من هؤلاء فإنه قد علم منه أنه قال : أنا أنقل كل ما أقوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويا ليتهم قنعوا بمراسيل التابعين ، بل يأتون إلى من تأخر زمانه كالعسكريين فيقولون : كل ما قاله واحد من أولئك فالنبي قد قاله . كعلي بن الحسين
وكل من له عقل يعلم أن العسكريين بمنزلة أمثالهما ممن كان في زمانهما من الهاشميين ، ليس عندهم من العلم ما يمتازون به عن غيرهم ، ويحتاج إليهم فيه أهل العلم ، ولا كان أهل العلم يأخذون عنهم ، كما يأخذون عن علماء زمانهم ، وكما كان أهل العلم في زمن ، وابنه علي بن الحسين أبي جعفر ، وابن ابنه ; فإن هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم قد أخذ أهل العلم عنهم ، كما كانوا يأخذون [ ص: 165 ] عن أمثالهم ، بخلاف العسكريين ونحوهما جعفر بن محمد [77] ; فإنه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئا ، فيريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع العالمين ، بمنزلة القرآن والمتواتر من السنن . وهذا مما لا يبني عليه دينه إلا من كان من أبعد الناس عن طريقة أهل العلم والإيمان .