الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والتحقيق أنه يعود على من قال هذا من أي صنف كان . ولهذا قيل : هذا لا يعين قائله ; لأنه دائما يقوله بعض الناس ، فكل من قاله تناولته الآية ; فإن الطاعنين فيما جاء به الرسول [1] من كافر ومنافق ، بل ومن في قلبه مرض أو عنده جهل يقول مثل ذلك ، وكثير من الناس يقول ذلك في بعض ما جاء به الرسول ، ولا يعلم أنه جاء به ، لظنه خطأ صاحبه ، ويكون هو المخطئ ، فإذا أصابهم نصر ورزق ، قالوا : هذا من عند الله ، لا يضيفه إلى ما جاء به الرسول ، وإن كان سببا له . وإن أصابهم نقص رزق وخوف من العدو وظهوره ، قالوا : هذا من عندك ، لأنه أمر بالجهاد فجرى ما جرى ، وأنهم تطيروا بما جاء به ، كما تطير قوم فرعون بما جاء به موسى .

                  والسلف ذكروا المعنيين ، فعن ابن عباس ، قال : بشؤمك . وعن ابن زيد قال : بسوء تدبيرك . قال تعالى : قل كل من عند الله [ سورة النساء 78 ] . وعن ابن عباس : الحسنة والسيئة ، أما الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ! ؟ وقد قيل في مثل هذا : لم يفقهوه [2] ولم يكادوا ، وأن النفي مقابل الإثبات . وقيل : بل معناه فقهوه [3] بعد أن كادوا لا يفقهونه [4] . كقوله [ ص: 141 ] : فذبحوها وما كادوا يفعلون [ سورة البقرة 71 ] ، فالمنفي بها مثبت ، والمثبت بها منفي [5] ، وهذا هو المشهور وعليه عامة الاستعمال . وقد يقال [6] : يراد بها هذا تارة وهذا تارة ; فإذا صرحت بإثبات الفعل فقد وجد ، فإذا لم يؤت إلا بالنفي المحض كقوله : لم يكد يراها و لا يكادون يفقهون حديثا فهذا نفي مطلق ، ولا قرينة معه تدل على الإثبات فيفرق بين مطلقها ومقيدها .

                  وهذه الأقوال الثلاثة للنحاة ، وقال بكل قول طائفة . وقد وصف الله تعالى المنافقين بعدم الفقه في مثل قوله تعالى : هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون [ سورة المنافقون 7 ] .

                  وفي مثل قوله : ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ سورة محمد 16 ] . فدل على أنهم لم يكونوا يفقهون القرآن .

                  لكن قوله حديثا نكرة في سياق النفي فتعم ، كما قال في الكهف : وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا [ سورة الكهف 93 ] . ومعلوم أنهم [7] لا بد أن يفقهوا بعض الأقوال ، وإلا فلا يعيش الإنسان بدون ذلك ، فعلم أن المراد أنهم يفقهون بعد أن كادوا لم يفقهوه [8] .

                  [ ص: 142 ] وكذلك في الرواية [9] ، وهذا أظهر أقوال النحاة [10] وأشهرها .

                  والمقصود أن هؤلاء لو فقهوا القرآن لعلموا أنك ما أمرتهم إلا بخير ، وما نهيتهم إلا عن شر ، وأنه لم تكن المصيبة الحاصلة لهم بسببك ، بل بسبب ذنوبهم . ثم قال الله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ سورة النساء 79 ] . قال ابن عباس : وأنا [11] كتبتها عليك . وقيل : إنها في حرف عند الله [12] وأنا قدرتها عليك .

                  وهذا كقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ سورة الشورى 30 ] ، وقوله : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ سورة آل عمران 165 ] وقوله : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور [ سورة الشورى 48 ] .

                  وأما رواية كردم عن يعقوب : فمن نفسك ، فمعناها يناقض القراءة المتواترة فلا يعتمد عليها .

                  ومعنى هذه الآية كما في الحديث الصحيح الإلهي : " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " [13] .

                  ومعنى هذه الآية متناول لكل من نسب ما أصابه من المصيبة إلى ما [ ص: 143 ] أمر الله به ورسوله كائنا من كان [14] . فمن قال : إنه بسبب تقديمه لأبي بكر وعمر ، واستخلافه في الصلاة ، أو بسبب ولايتهما ، حصل لهم [15] مصيبة . قيل : مصيبتكم بسبب ذنوبكم : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ سورة الطلاق 2 - 3 ] ، بل هذا كله من أذى المؤمنين بغير ما اكتسبوا وقد قال تعالى : ولا يغتب بعضكم بعضا [ سورة الحجرات : 12 ] .

                  وثبت في الصحيح [16] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الغيبة ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته [17] " . فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته ، فكيف إذا كان ذلك في الصحابة ؟ .

                  ومن قال عن مجتهد : إنه تعمد الظلم وتعمد [18] معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ، ولم يكن كذلك فقد بهته ، وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه ، لكن يباح من ذلك ما أباحه [19] الله ورسوله ، وهو ما يكون [20] [ ص: 144 ] على وجه القصاص والعدل ، وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين . فالأول كقول المشتكي المظلوم : فلان ضربني وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك .

                  قال تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ سورة النساء : 148 ] ، وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه ، لأن قرى الضيف واجب ، كما دلت عليه [21] الأحاديث الصحيحة ، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك ، وقد أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبهم [22] بمثل قراه في زرعهم ومالهم ، وقال : " نصره واجب على كل مسلم " [23] لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت : يا رسول الله ، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تمنعه [24] من الظلم فذلك نصرك إياه " [25] .

                  وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة ، كما ثبت في الصحيح أنها [ ص: 145 ] قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف . فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة [26] ، فلم ينكر عليها قولها ، وهو من جنس قول المظلوم .

                  وأما النصيحة فمثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت : خطبني أبو جهم ومعاوية . فقال : " أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وفي لفظ : " يضرب النساء " ، " انكحي أسامة " [27] فلما استشارته حتى تتزوج [28] ذكر ما تحتاج إليه .

                  وكذلك من استشار رجلا فيمن [29] يعامله . والنصيحة مأمور بها ولو لم [ ص: 146 ] يشاوره ; فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " الدين النصيحة ، الدين النصيحة " ثلاثا . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " [30] .

                  وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمد الكذب عليه ، أو على من ينقل عنه العلم . وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل ، وقصد النصيحة ، فالله تعالى يثيبه على ذلك ، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة ، فهذا يجب بيان أمره للناس ، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية