والتحقيق أنه يعود على من قال هذا من أي صنف كان . ولهذا قيل : هذا لا يعين قائله ; لأنه دائما يقوله بعض الناس ، فكل من قاله تناولته الآية ; فإن الطاعنين فيما جاء به الرسول [1] من كافر ومنافق ، بل ومن في قلبه مرض أو عنده جهل يقول مثل ذلك ، وكثير من الناس يقول ذلك في بعض ما جاء به الرسول ، ولا يعلم أنه جاء به ، لظنه خطأ صاحبه ، ويكون هو المخطئ ، فإذا أصابهم نصر ورزق ، قالوا : هذا من عند الله ، لا يضيفه إلى ما جاء به الرسول ، وإن كان سببا له . وإن أصابهم نقص رزق وخوف من العدو وظهوره ، قالوا : هذا من عندك ، لأنه أمر بالجهاد فجرى ما جرى ، وأنهم تطيروا بما جاء به ، كما تطير قوم فرعون بما جاء به موسى .
والسلف ذكروا المعنيين ، فعن ، قال : بشؤمك . وعن ابن عباس ابن زيد قال : بسوء تدبيرك . قال تعالى : قل كل من عند الله [ سورة النساء 78 ] . وعن : الحسنة والسيئة ، أما الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ! ؟ وقد قيل في مثل هذا : لم يفقهوه ابن عباس [2] ولم يكادوا ، وأن النفي مقابل الإثبات . وقيل : بل معناه فقهوه [3] بعد أن كادوا لا يفقهونه [4] . كقوله [ ص: 141 ] : فذبحوها وما كادوا يفعلون [ سورة البقرة 71 ] ، فالمنفي بها مثبت ، والمثبت بها منفي [5] ، وهذا هو المشهور وعليه عامة الاستعمال . وقد يقال [6] : يراد بها هذا تارة وهذا تارة ; فإذا صرحت بإثبات الفعل فقد وجد ، فإذا لم يؤت إلا بالنفي المحض كقوله : لم يكد يراها و لا يكادون يفقهون حديثا فهذا نفي مطلق ، ولا قرينة معه تدل على الإثبات فيفرق بين مطلقها ومقيدها .
وهذه الأقوال الثلاثة للنحاة ، وقال بكل قول طائفة . وقد وصف الله تعالى المنافقين بعدم الفقه في مثل قوله تعالى : هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون [ سورة المنافقون 7 ] .
وفي مثل قوله : ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ سورة محمد 16 ] . فدل على أنهم لم يكونوا يفقهون القرآن .
لكن قوله حديثا نكرة في سياق النفي فتعم ، كما قال في الكهف : وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا [ سورة الكهف 93 ] . ومعلوم أنهم [7] لا بد أن يفقهوا بعض الأقوال ، وإلا فلا يعيش الإنسان بدون ذلك ، فعلم أن المراد أنهم يفقهون بعد أن كادوا لم يفقهوه [8] .
[ ص: 142 ] وكذلك في الرواية [9] ، وهذا أظهر أقوال النحاة [10] وأشهرها .
والمقصود أن هؤلاء لو فقهوا القرآن لعلموا أنك ما أمرتهم إلا بخير ، وما نهيتهم إلا عن شر ، وأنه لم تكن المصيبة الحاصلة لهم بسببك ، بل بسبب ذنوبهم . ثم قال الله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ سورة النساء 79 ] . قال : وأنا ابن عباس [11] كتبتها عليك . وقيل : إنها في حرف عند الله [12] وأنا قدرتها عليك .
وهذا كقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ سورة الشورى 30 ] ، وقوله : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ سورة آل عمران 165 ] وقوله : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور [ سورة الشورى 48 ] .
وأما رواية كردم عن يعقوب : فمن نفسك ، فمعناها يناقض القراءة المتواترة فلا يعتمد عليها .
ومعنى هذه الآية كما في الحديث الصحيح الإلهي : " " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه [13] .
ومعنى هذه الآية متناول لكل من نسب ما أصابه من المصيبة إلى ما [ ص: 143 ] أمر الله به ورسوله كائنا من كان [14] . فمن قال : إنه بسبب تقديمه لأبي بكر ، واستخلافه في الصلاة ، أو بسبب ولايتهما ، حصل لهم وعمر [15] مصيبة . قيل : مصيبتكم بسبب ذنوبكم : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ سورة الطلاق 2 - 3 ] ، بل هذا كله من أذى المؤمنين بغير ما اكتسبوا وقد قال تعالى : ولا يغتب بعضكم بعضا [ سورة الحجرات : 12 ] .
وثبت في الصحيح [16] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ذكرك أخاك بما يكره " . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته الغيبة [17] " . فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته ، فكيف إذا كان ذلك في الصحابة ؟ .
ومن قال عن مجتهد : إنه تعمد الظلم وتعمد [18] معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ، ولم يكن كذلك فقد بهته ، وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه ، لكن يباح من ذلك ما أباحه [19] الله ورسوله ، وهو ما يكون [20] [ ص: 144 ] على وجه القصاص والعدل ، وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين . فالأول كقول المشتكي المظلوم : فلان ضربني وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك .
قال تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ سورة النساء : 148 ] ، وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه ، لأن قرى الضيف واجب ، كما دلت عليه [21] الأحاديث الصحيحة ، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك ، وقد أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبهم [22] بمثل قراه في زرعهم ومالهم ، وقال : " نصره واجب على كل مسلم " [23] لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال : " [24] من الظلم فذلك نصرك إياه " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت : يا رسول الله ، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تمنعه [25] .
وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة ، كما ثبت في الصحيح أنها [ ص: 145 ] رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف . فقال : النبي - صلى الله عليه وسلم : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف أبا سفيان " أخرجاه في الصحيحين من حديث قالت : يا رسول الله ، إن عائشة [26] ، فلم ينكر عليها قولها ، وهو من جنس قول المظلوم .
وأما النصيحة فمثل لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت : خطبني أبو جهم . فقال : " أما ومعاوية فصعلوك لا مال له ، وأما معاوية أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وفي لفظ : " يضرب النساء " ، " انكحي أسامة " قوله - صلى الله عليه وسلم - [27] فلما استشارته حتى تتزوج [28] ذكر ما تحتاج إليه .
وكذلك من استشار رجلا فيمن [29] يعامله . والنصيحة مأمور بها ولو لم [ ص: 146 ] يشاوره ; فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " " ثلاثا . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " الدين النصيحة ، الدين النصيحة [30] .
وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمد الكذب عليه ، أو على من ينقل عنه العلم . وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل ، وقصد النصيحة ، فالله تعالى يثيبه على ذلك ، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة ، فهذا يجب بيان أمره للناس ، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق .