الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  [ ص: 227 ] وأما الصلوات الخمس فيجوز فعلها للمعذور بعد انقضاء الأوقات  ، فعلم أنه يصح فعلها في غير الوقت ، وأن الوقت ليس شرطا فيها ، كما هو شرط في تلك العبادات .

                  قال الآخرون : الجواب من وجهين : أحدهما : أن يقال : هب أنه يجوز فعل الصلاة بعد وقتها للمعذور  ، توسعة من الله ورحمة [1] ، وأما النائم والناسي فلا [2] ذنب لهما ، فوسع الله لهما عند الذكر والانتباه ، إذا كان لا يمكنهما الصلاة إلا حينئذ . فأي شيء في هذا مما يدل على جواز ذلك لمرتكب الكبيرة الذي لا عذر له في تفويتها ؟ والحج إذا فاته في عام أمكنه أن يحج في عام قابل ، ورمي الجمار إذا فاته جعل له بدل عنها وهو النسك . والجمعة إذا فاتت صلى الظهر . فكان [3] المعذور إذا فاتته هذه العبادات المؤقتة شرع له أن يأتي ببدلها ، ولا إثم عليه ، رحمة من الله في حقه . وأما غير المعذور فجعل له البدل أيضا في الحج ، لأن الحج يقبل النيابة ; فإذا مات الإنسان جاز أن يحج عنه وإن كان مفرطا [4] فإذا جاز أن يحج عنه غيره فلأن يجوز أن يأتي هو بالبدل بطريق الأحرى والأولى ; فإن الدم الذي يخرجه هو أولى من فعل غيره عنه .

                  وأما الجمعة إذا فاتته ، فإنما يصلي الظهر ، لأنها الفرض المعتاد في كل يوم ، لا لأنها بدل عن الجمعة ، بل الواجب على كل أحد : إما [ ص: 228 ] الجمعة وإما الظهر ; فإذا أمكنه [5] الجمعة وجبت عليه ، وإن لم يمكن صلى الظهر ، فإذا فاتت الجمعة أمكنه أن يصلي الظهر ، فوجب عليه صلاة الظهر . ولهذا لا يجوز فعلها عند أكثر العلماء إلا إذا فاتت الجمعة .

                  وأما الصلاة المكتوبة فلا تدخلها النيابة بحال ، وكذلك صوم رمضان إن [6] كان قادرا عليه وإلا سقط عنه الصوم ، وأطعم هو عن كل يوم مسكينا عند الأكثرين ، وعند مالك لا شيء عليه . وأما ما وردت به السنة من صيام الإنسان عن وليه ، فذاك في النذر ، كما فسرته الصحابة الذين رووه بهذا ، كما يدل عليه لفظه ; فإنه قال : " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " [7] والنذر في ذمته وهو [8] عليه ، وأما صوم رمضان فليس في ذمته ولا هو عليه ، بل هو ساقط عن العاجز عنه .

                  فلما كانت الصلوات الخمس وصيام رمضان لا يفعله أحد عن أحد أصلا ، لم يكن لهما بدل ، بخلاف الحج وغيره ، فلهذا وسع الشارع في قضائهما للمعذور لحاجته به إلى ذلك توسعة منه ورحمة ، وغيرهما لم يوسع في قضائه لأحد ، لأنه لا حاجة به [9] إلى قضائه لما شرع من البدل ، [ ص: 229 ] إما عبادة أخرى كالظهر عن الجمعة ، والدم عن واجبات الحج ، وإما فعل الغير ، كالحج عن المغصوب والميت .

                  فهذا يبين الفرق بين الصلاة والصوم وغيرهما ، وبين المعذور وغيره ، ويبين أن من وسع فيهما لغير المعذور [10] كما يوسع للمعذور فقد أخطأ القياس .

                  الجواب الثاني : أنا لم نقس قياسا استفدنا به حكم الفرع من الأصل ; فإن ما ذكرناه ثابت بالأدلة الشرعية التي لا تحتاج إلى القياس معها كما تقدم ، لكن ذكرنا القياس ليتصور الإنسان ما جاء به الشرع في هذا ، كما يضرب الله الأمثال للتفهيم والتصوير ، لا لأن ذلك هو الدليل الشرعي .

                  والمراد بهذا القياس أن يعرف أن فعل الصلاة بعد الوقت ، حيث حرم الله ورسوله تأخيرها ، بمنزلة فعل هذه العبادات . والمقصود تمثيل الحكم بالحكم ، لا تمثيل الفعل بالفعل ، فيعرف [11] أن المقصود أن الصلاة ما بقيت تقبل ولا تصح ، كما لا تقبل هذه ولا تصح ; فإن من الجهال من يتوهم أن المراد بذلك تهوين [12] أمر الصلاة ، وأن من فوتها سقط عنه القضاء ، فيدعو ذلك السفهاء إلى تفويتها .

                  وهذا لا يقوله مسلم ، بل من قال : إن من فوتها فلا إثم عليه ، فهو كافر مرتد يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل . ولكن تفويت الصلاة عمدا مثل تفويت شهر رمضان عمدا بإجماع المسلمين ، فأجمع المسلمون كلهم من [ ص: 230 ] جميع الطوائف على أن من قال : لا أصلي صلاة النهار إلا بالليل ، فهو كمن قال : لا أصوم رمضان [13] إلا في شوال ، فإن كان يستجيز تأخيرها ويرى ذلك جائزا له ، فهو كمن يرى تأخير رمضان جائزا . وهذا وهذا يجب [14] استتابتهما باتفاق العلماء ، فإن تابا واعتقدا وجوب فعل الصلاة والصوم في وقتهما وإلا قتلا .

                  وكثير من العامة والجهال يعتقدون جواز تأخيرها إلى الليل بأدنى شغل ، ويرى أن صلاتها بالليل خير من أن يصليها بالنهار مع الشغل ، وهذا باطل بإجماع المسلمين ، بل هذا كفر [15] . وكثير منهم لا يرى جوازها في الوقت إلا مع كمال الأفعال ، وأنه إذا صلاها بعد الوقت مع كمال الأفعال كان أحسن ، وهذا باطل ، بل كفر باتفاق العلماء .

                  ومن أسباب هذه الاعتقادات الفاسدة تجويز القضاء لغير المعذور ، وقول القائل : إنها تصح وتقبل وإن أثم بالتأخير ، فجعلوا فعلها بعد الغروب كفعل العصر بعد الاصفرار ، وذلك جمع بين ما فرق الله ورسوله بينه . فلو علمت العامة أن تفويت الصلاة كتفويت شهر رمضان باتفاق المسلمين ، لاجتهدوا في فعلها في الوقت .

                  ومن جملة أسباب ذلك أن رمضان يشترك في صومه جميع الناس ، والوقت مطابق للعبادة لا يفصل [16] عنها ، وليس له شروط كالصلاة . والصلاة وقتها موسع ، فيصلي بعض الناس في أول الوقت وبعضهم في [ ص: 231 ] آخره ، وكلاهما جائز ، وفيها واجبات يظن الجهال أنه لا يجوز فعلها إلا مع تلك الواجبات مطلقا ، فيقولون : نفعلها بعد الوقت ، فهو خير من فعلها في الوقت بدون تلك الواجبات .

                  فهذا الجهل أوجب تفويت الصلاة التفويت [17] المحرم بالإجماع ، ولا يجوز أن يقال لمن فوتها : لا شيء عليك ، أو تسقط عنك الصلاة ، وإن قال هذا فهو كافر ، ولكن يبين له أنك بمنزلة من زنى وقتل النفس ، وبمنزلة من أفطر رمضان عمدا ، إذ أذنبت ذنبا ما بقي له جبران يقوم مقامه ، فإنه من الكبائر . بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر .

                  فإذا كان هذا في الجمع من غير عذر ، فكيف بالتفويت من غير عذر ؟ وحينئذ فعليك بالتوبة والاجتهاد في أعمال صالحة أكثر من قضائها ، فصل صلوات كثيرة ، لعله أن يكفر بها عنك ما فوته ، وأنت مع ذلك على خطر ، وتصدق فإن بعض الصحابة ألهاه بستانه عن صلاة المغرب فتصدق ببستانه .

                  وسليمان بن داود لما فاتته صلاة العصر بسبب الخيل ، طفق مسحا بالسوق والأعناق ، فعقرها كفارة لما صنع .

                  فمن فوت صلاة واحدة عمدا فقد أتى كبيرة عظيمة ، فليستدرك بما أمكن من توبة وأعمال صالحة . ولو قضاها لم يكن مجرد [18] القضاء رافعا إثم ما فعل بإجماع المسلمين . والذين يقولون : لا يقبل منه القضاء ، يقولون : نأمره بأضعاف القضاء ، لعل الله أن يعفو عنه . وإذا قالوا : لا يجب القضاء إلا بأمر جديد ، فلأن القضاء تخفيف ورحمة ، كما في حق المريض والمسافر في رمضان . والرحمة والتخفيف تكون للمعذور والعاجز ، لا تكون [ ص: 232 ] لأصحاب الكبائر المتعمدين لها ، المفرطين في عمود الإسلام .

                  والصلاة عمود الإسلام ، ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه لما سئل عمن وجب عليه الحج فعجز عنه ، أو نذر صياما أو حجا فمات ، هل يفعل عنه ؟ فقال : " أرأيت لو كان على أبيك أو أمك دين فقضيته ، أما كان يجزي عنه ؟ " قال : بلى . قال : " فالله [19] أحق بالقضاء " [20] . ومراده بذلك أن الله أحق بقبول القضاء عن المعذور من بني آدم ; فإن الله أرحم وأكرم ، فإذا كان الآدميون يقبلون القضاء عمن مات ، فالله أحق بقبوله أيضا ، لم يرد بذلك أن الله يحب أن تقضى حقوقه التي كانت على الميت ، وهي أوجب ما يقضى من الدين ، فإن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه ، لكن يقضى من تركته ، ولا يجب على أحد فعل ما وجب على الميت من نذر .

                  والسائل إنما سأل عن الإجزاء والقبول ، لم يسأل عن الوجوب ، فلا بد أن يجاب عن سؤاله ، فعلم أن الأمر بقضاء العبادات وقبول القضاء من باب الإحسان والرحمة [21] ، وذلك مناسب للمعذور [22] . وأما صاحب الكبيرة المفوت عمدا [23] فلا يستحق تخفيفا ولا رحمة ، لكن إذا تاب فله [ ص: 233 ] أسوة بسائر التائبين من الكبائر ، فيجتهد في طاعة [24] الله وعباداته بما أمكن ، والذين أمروه بالقضاء من العلماء [25] لا يقولون : إنه بمجرد القضاء [ يسقط عنه الإثم ، بل يقولون : بالقضاء ] [26] يخف عنه الإثم ، وأما إثم التفويت وتأخير الصلاة عن وقتها فهو كسائر الذنوب التي تحتاج : إما إلى توبة ، وإما إلى حسنات ماحية ، وإما غير ذلك مما يسقط به العقاب .

                  وهذه المسائل  لبسطها موضع آخر . والمقصود هنا أن ما كان من الشيطان مما لا يدخل تحت الطاقة فهو معفو عنه ، كالنوم والنسيان والخطأ في الاجتهاد ونحو ذلك ، وأن كل من مدح من الأمة [27] أولهم وآخرهم على شيء أثابه الله عليه ورفع به قدره ، فهو مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالثواب على ما جاء به الرسول [28] ، والنصرة لمن نصره ، والسعادة لمن اتبعه ، وصلوات الله وملائكته [29] على المؤمنين به ، والمعلمين للناس دينه ، والحق يدور معه حيثما دار ، وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له أعملهم بسنته وأتبعهم لها ، وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ وإما دين مبدل لم يشرع قط .

                  وقد قال علي رضي الله عنه في مفاوضة جرت بينه وبين عثمان رضي الله عنه : " خيرنا أتبعنا لهذا الدين " وعثمان يوافقه على ذلك ، وسائر الصحابة [ رضي الله عنهم أجمعين ] [30] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية