الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وقد اتفق العلماء على ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها " [1] . فاتفقوا [ ص: 213 ] على أن النائم يصلي إذا استيقظ ، والناسي إذا ذكر ، وعليه قضاء الفائتة على الفور عند جمهورهم ، كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم . وأما الشافعي فيجعل قضاء النائم والناسي على التراخي ، ومن [2] نسي بعض واجباتها فهو كمن نسيها ، فلو صلى ثم ذكر بعد خروج الوقت أنه كان على غير وضوء أعاد ، كما أعاد عمر وعثمان وغيرهما لما صلوا بالناس ، ثم ذكروا بعد الصلاة أنهم كانوا جنبا فأعادوا ، ولم يأمروا المأمومين بالإعادة .

                  وفي حديث عمر أنه لم يذكر إلا بعد طلوع الشمس [3] .

                  وكذلك إذا أخرها تأخيرا يرى أنه جائز . كما أخرها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب وصلاها بعد مغيب الشمس [4] فإن ذلك التأخير إما أن يكون لنسيان منه ، أو لأنه كان جائزا إذا كانوا مشغولين بقتال العدو أن يؤخروا الصلاة .

                  [ ص: 214 ] والعلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال : قيل : يصلي حال القتال ولا يؤخر الصلاة [5] ، وتأخير الخندق منسوخ . وهذا مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه .

                  وقيل : يخير بين تقديمها وتأخيرها . لأن الصحابة لما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، كانت طائفة منهم أخرت [6] الصلاة فصلوا بعد غروب الشمس ، وكانت منهم طائفة قالوا : لم يرد منا إلا المبادرة إلى العدو لا تفويت [7] الصلاة . فصلوا في الطريق ، فلم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الطائفتين .

                  والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر [8] . وهذا قول طائفة من الشاميين وغيرهم ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد .

                  وقيل : بل يؤخرونها كما فعل يوم الخندق . وهو مذهب أبي حنيفة . ففي الجملة كل من أخرها تأخيرا يعذر به إما لنسيان أو لخطأ في الاجتهاد فإنه يصليها بعد الوقت ، كمن ظن أن الشمس لم تطلع فأخرها حتى طلعت ، أو ظن أن وقت العصر باق فأخرها حتى غربت فإن هذا يصلي .

                  وعلى قول الأكثرين ما بقي تأخيرها جائزا حتى تغرب الشمس ، ومن قال : إنه يجوز التأخير فإنه يصليها ، ولو أخرها باجتهاده فإنه يصليها .

                  وإن قيل : إنه أخطأ في اجتهاده [9] ، وليس هذا من أهل الوعيد [ ص: 215 ] المذكور في قوله : " من ترك صلاة العصر فقد [10] حبط عمله " [11] فإن هذا مجتهد متأول مخطئ . وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان " [12] . وهو حديث حسن ، وقد دل عليه القرآن والحديث الصحيح [13] .

                  وأما من فوتها عمدا عالما بوجوبها ، أو فوت بعض واجباتها الذي يعلم وجوبه منها ; فهذا مما تنازع فيه العلماء . فقيل في الجميع : يصح أن يصليها بعد التفويت ، ويجب ذلك عليه ، ويثاب على ما فعل ، ويعاقب على التفويت ، كمن أخر الظهر إلى وقت العصر ، والمغرب والعشاء إلى آخر الليل من غير عذر .

                  وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد يقولون [14] : هو [15] في كل صلاة وجب [16] إعادتها في الوقت فيجب إعادتها بعد الوقت ، وأما مالك وغيره من أهل المدينة فيفرقون بين ما يعاد في الوقت وما يعاد بعد خروج الوقت ، فما لم يكن فرضا بل واجبا - وهو الذي يسمونه سنة - أمروا بإعادة الصلاة إذا تركه في الوقت ، كمن صلى بالنجاسة . وأما ما كان فرضا ، كالركوع والسجود والطهارة ، فإنه بمنزلة من لم يصل ، فيعيد بعد الوقت .

                  [ ص: 216 ] وقد أنكر عليهم كثير من الناس التفريق بين الإعادة في الوقت وبعده . وصنف المزني مصنفا رد فيه على مالك ثلاثين مسألة منها هذه . وقد رد على المزني الشيخ أبو بكر الأبهري [17] وصاحبه القاضي عبد الوهاب . وعمدتهم أن الصلاة إن [18] فعلت كما أمر بها العبد فلا إعادة عليه في الوقت ولا بعده ، وإن لم تفعل كما أمر بها العبد فهي في ذمته ، فيعيدها في الوقت وبعده . وأهل المدينة يقولون : فعلها في الوقت واجب ليس لأحد قط أن يؤخرها عن الوقت ، فإن كان الوقت أوكد مما ترك لم يعد بعد الوقت ، لأنه ما بقي بعد الوقت يمكنه تلافيها ; فإن الصلاة مع النجاسة أو عريانا خير من الصلاة بلا نجاسة بعد الوقت ، فلو أمرناه أن يعيدها بعد الوقت لكنا نأمره بأنقص مما صلى ، وهذا لا يأمر به الشارع ، وهذا بخلاف من ترك ركنا منها ، فذاك بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت .

                  وهذا الفرق مبني على أن الصلاة من واجباتها [19] ما هو ركن لا تتم إلا به ، ومنها ما هو واجب تتم بدونه [20] ، إما مع السهو وإما مطلقا . وهذا قول الجمهور ، وأبو حنيفة يوجب فيها ما لا يجب بتركه الإعادة بحال . فإذا [ ص: 217 ] أوجب أهل المدينة فيها ما يجب بتركه الإعادة في الوقت ، كان أقرب إلى الشرع . وأحمد مع مالك يوجبان فيها ما يسقط بالسهو ويجبر بالسجود ، ثم ذلك الواجب إذا تركه عمدا أمره أحمد في ظاهر مذهبه بالإعادة كما لو ترك فرضا ، وأما مالك ففي مذهبه قولان فيمن ترك ما يجب السجود لتركه سهوا ، كترك التشهد الأول ، وترك تكبيرتين فصاعدا ، أو قراءة [21] السورة والجهر والمخافتة في موضعهما .

                  وقد اتفق الجميع على أن واجبات الحج منها ما يجبر الحج مع تركه ، ومنها ما يفوت الحج مع تركه فلا يجبر ، كالوقوف بعرفة ، فكذلك [22] الصلاة .

                  وقالت طائفة ثالثة : ما أمر الله به في الوقت إذا ترك لغير عذر حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت ، كالجمعة ، والوقوف بعرفة ، ورمي الجمار ; فإن الفعل بعد الوقت عبادة لا تشرع إلا إذا شرعها الشارع ، فلا تكون مشروعة إلا بشرعه ، ولا واجبة إلا بأمره . وقد اتفق المسلمون على أن من فاته الوقوف بعرفة لعذر أو لغيره [23] لا يقف بعرفة بعد طلوع الفجر ، وكذلك رمي الجمار لا ترمى بعد أيام منى ، سواء فاتته [24] لعذر أو لغير عذر [25] . كذلك الجمعة لا يقضيها الإنسان سواء فاتته بعذر أو بغير [ ص: 218 ] عذر [26] ، وكذلك لو فوتها [27] أهل المصر كلهم لم يصلوها [28] يوم السبت .

                  وأما الصلوات الخمس فقد ثبت أن المعذور يصليها إذا أمكنه ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك " [29] . وكذلك صوم رمضان أمر الله المسافر والمريض والحائض أن يصوموا [30] نظيره في أيام أخر .

                  والوقت المشترك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقت [31] لجواز فعلهما [32] جميعا عند العذر ، وإن فعلتا لغير عذر ففاعلهما آثم ، لكن هذه قد فعلت في وقت هو وقتها في الجملة .

                  وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة ، ونهى عن قتالهم ، مع ذمهم وظلمهم . وأولئك كانوا يؤخرون الظهر إلى العصر ، فجاءت طائفة من الشيعة [33] فصاروا يجمعون بين الصلاتين في وقت الأولى دائما من غير عذر ، فدخل في الوقت المشترك من جواز الجمع للعذر ، من تأويل الولاة وتصحيح الصلاة مع إثم التفويت ، ما لم يدخل في التفويت المطلق ; كمن يفطر شهر رمضان عمدا ويقول : أنا أصوم في شوال ، أو يؤخر الظهر والعصر [ ص: 219 ] عمدا ، ويقول : أصليهما بعد المغرب ، ويؤخر [34] المغرب والعشاء ويقول : أصليهما بعد الفجر ، أو يؤخر الفجر ويقول : أصليها بعد طلوع الشمس ، فهذا تفويت محض بلا عذر .

                  وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " ، وقال : " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " [35] ، فلو كان يمكنه الاستدراك لم يحبط عمله . وقوله : " وتر أهله وماله " أي صار وترا لا أهل له ولا مال ، ولو كان فعلها ممكنا بالليل لم يكن موتورا .

                  وقال : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك " [36] فلو كان فعلها بعد المغرب صحيحا مطلقا ، لكان مدركا ، سواء أدرك ركعة أو لم يدرك ; فإنه لم يرد أن من أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم ، بل يأثم بتعمد ذلك ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، فإنه أمر بأن تصلى الصلاة لوقتها الذي حده ، وأن لا يؤخر العصر إلى ما بعد الاصفرار ، ففعلها قبل الاصفرار واجب بأمره ، وقوله : " صلوا الصلاة لوقتها " [37] . فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم عن غير المعذور ، بل يكون [ ص: 220 ] قد صلاها مع الإثم ، فلو كانت أيضا تصلى بعد المغرب مع الإثم ، لم يكن فرق بين من يصليها عند الاصفرار أو يصليها بعد الغروب ، إلا أن يقال : ذاك أعظم إثما . ومعلوم أنه كلما أخرها كان أعظم إثما ، فحيث جاز القضاء مع وجوب التقديم كلما أخر القضاء كان أعظم لإثمه .

                  ومن نام عن صلاة أو نسيها فعليه أن يصليها إذا ذكرها ; [ فإن ذلك وقتها ] [38] . وإذا أخرها من غير عذر أثم ، كما يأثم من أخر الواجب على الفور ، ويصح فعلها بعد ذلك ، فلو كانت العصر بعد المغرب بهذه المنزلة ، لم يكن لتحديد وقتها بغروب الشمس ، وقوله : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس " [39] فائدة ، بل كانت تكون كالواجب على الفور إذا أخره ، أو كانت تكون كالمغرب إذا أخرها إلى وقت العشاء . ومعلوم أن هذا قد يجوز ، بل يسن كما في ليلة المزدلفة ، كما يسن تقديم العصر إلى وقت الظهر يوم عرفة بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين .

                  [ ص: 221 ] وأما فعل العصر بعد المغرب [40] ، فلم يؤذن فيه قط لغير المعذور ، كما لم يؤذن في صلاة المغرب قبل غروب الشمس . قال هؤلاء : والصلاة في الوقت واجبة على أي حال بترك جميع الواجبات لأجل الوقت ، فإذا أمكنه أن يصلي في الوقت بالتيمم ، أو بلا قراءة ، أو بلا إتمام ركوع وسجود ، أو إلى غير القبلة ، أو يصلي عريانا ، أو كيفما أمكن وجب ذلك عليه ، ولم يكن له أن يصلي بعد الوقت مع تمام الأفعال . وهذا مما ثبت بالكتاب والسنة وعامته مجمع عليه .

                  فعلم أن الوقت مقدم على جميع الواجبات . وحينئذ فمن صلى في الوقت بلا قراءة ، أو عريانا متعمدا ، ونحو ذلك ، إذا أمر أن يصلي بعد الوقت بقراءة وسترة ، كان ما أمر به دون ما فعله . ولهذا إذا لم يمكن إلا أحدهما ، وجب أن يصلي في الوقت بلا قراءة ولا سترة ، ولا يؤخرها ويصلي بعد الوقت بقراءة وسترة .

                  فعلم أن ذلك التفويت [41] ما بقي استدراكه ممكنا ، وأما المعذور فالله تعالى جعل الوقت في حقه متى أمكنه ، فمن نسي الصلاة أو بعض واجباتها صلاها متى ذكرها [42] ، وكان ذلك هو الوقت في حقه وإذا قيل : صلاته في الوقت كانت أكمل .

                  قيل : نعم ، لكن تلك لم تجب عليه لعجزه بالنوم والنسيان ، وإنما وجب عليه أن يصلي إذا استيقظ وذكر ، كما نقول في الحائض إذا طهرت [ ص: 222 ] في وقت العصر فهي حينئذ مأمورة بالظهر والعصر ، وتكون مصلية للظهر في وقتها أداء ، وكذلك إذا طهرت آخر الليل صلت المغرب والعشاء ، وكانت المغرب في حقها أداء كما أمرها بذلك أصحاب رسول الله [43] - صلى الله عليه وسلم : عبد الرحمن بن عوف ، وابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهم ، ولم ينقل عن صحابي خلافه .

                  وهذا يدل على أن هذا من السنة التي كان الصحابة يعرفونها ; فإن مثل هذا يقع على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة ، حيث جعل الله المواقيت ثلاثة في حق المعذور ، وهذه معذورة . وهذا مذهب مالك والشافعي " وأحمد بن حنبل [44] ، وهو يدل على أن الوقت مشترك في حق المعذور ، فلا يحتاج أن ينوي الجمع ، كما هو قول الأكثرين : أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد وقدماء أصحابه .

                  لكن الشافعي ، وطائفة من أصحاب أحمد ، كالخرقي ومن وافقه ، قالوا : تجب النية في القصر والجمع . وجمهور العلماء على أنه لا تجب النية لا لهذا ولا لهذا . وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه [45] ، وهو الصواب ، كما بسط في غير هذا الموضع [46] .

                  وقضية [47] الحائض مما يبين أن فعل الصلاة في غير وقتها الذي أمر بها [ ص: 223 ] فيه غير ممكن ; فإن ذلك لو كان ممكنا لكانت الحائض تؤمر بقضاء الصلاة أمر إيجاب أو أمر استحباب [48] .

                  فإذا قيل : يسقط القضاء عنها تخفيفا .

                  قيل : فلو أرادت أن تصلي قضاء لتحصل [49] ثواب الصلاة التي فاتتها ، لم يكن هذا مشروعا باتفاق العلماء ، وكان لها أن تصلى من النوافل ما ; شاءت فإن تلك الصلاة لم تكن مأمورة بها في وقتها . والصلاة المكتوبة لا يمكن فعلها إلا في الوقت الذي أمر به العبد ، فلم يجز فعلها بعد ذلك . وكل من كان معذورا من نائم وناس ومخطئ ، فهؤلاء مأمورون بها في الوقت الثاني ، فلم يصلوا إلا في وقت الأمر ، كما أمرت الحائض والمسافر والمريض بقضاء رمضان ، وقيل في المتعمد لفطره : لا يجزيه صيام الدهر ولو صامه .

                  قالوا : والناسي إنما أمر بالصلاة إذا ذكرها ، لم يؤمر بها قبل ذلك . وذلك هو الوقت في حقه ، فلم يصل إلا في وقتها ، وكذلك النائم إذا استيقظ إنما صلى في الوقت .

                  قالوا : ولم يجوز الله لأحد أن يصلي الصلاة لغير وقتها ، ولا يقبلها منه في غير وقتها ألبتة . وكذلك شهر رمضان . وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه " [50] قالوا : وإنما يقبل الله صيامه في غير الشهر من المعذور ، [ ص: 224 ] كالمريض والمسافر والحائض ، ومن اشتبه عليه الشهر فتحرى فصام بعد ذلك ، فإنه يجزيه الصيام ، أما المعتمد للفطر فلا .

                  قالوا : ولهذا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جامع أهله في رمضان بصوم ، بل أمره بالكفارة فقط . وقد جاء ذكر أمره بالقضاء في حديث ضعيف ضعفه العلماء : أحمد بن حنبل وغيره [51] . وكذلك جاء في الذي يستقيء عمدا أنه يعيد ، وهذا لم يثبت رفعه ، وإنما ثبت أنه موقوف على أبي هريرة . وبتقدير صحته فيكون المراد به المعذور الذي اعتقد أنه يجوز له الاستقاء ، أو المريض الذي احتاج إلى أن يستقيء فاستقاء ; فإن الاستقاءة لا تكون في العادة إلا لعذر ، وإلا فلا يقصد العاقل أن يستقيء بلا حاجة [52] ، فيكون المستقيء متداويا بالاستقاءة ، كما يتداوى [ ص: 225 ] بالأكل ، وهذا يقبل منه القضاء ويؤمر به . وهذا الحديث ثابت عن أبي هريرة ، وإنما اختلف في رفعه ، وبكل حال هذا معناه [53] .

                  فإن أبا هريرة هو الذي روى حديث الأعرابي ، وحديث : " من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر " فتحمل أحاديثه على الاتفاق لا على الاختلاف . وهذا قول طائفة من السلف والخلف ، وهو قول أبي عبد الرحمن صاحب الشافعي ، وهو قول [54] داود بن علي ، وابن حزم [55] ، وغيرهم .

                  قالوا : والمنازعون لنا ليس لهم قط حجة يرد إليها عند التنازع ، وأكثرهم يقولون : لا يجب القضاء إلا بأمر ثان ، وليس معهم هنا أمر .

                  ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط ، بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها ، فنقول : الصلوات الخمس في غير وقتها المختص والمشترك ، المضيق والموسع ، كالجمعة في غير وقتها ، وكالحج في غير وقته ، وكرمي الجمار في غير وقتها . والوقت صفة للفعل ، وهو من آكد واجباته ، فكيف تقبل العبادة بدون صفاتها [56] الواجبة فيها ؟ .

                  [ ص: 226 ] وهو لو صلى إلى غير القبلة بغير عذر لم تكن صلاته إلا باطلة ، وكذلك إذا صلى قبل الوقت المشترك لغير عذر ، مثل أن يصلي الظهر قبل الزوال ، والمغرب قبل المغيب ، ولو فعل ذلك متأولا ، مثل الأسير إذا ظن دخول شهر رمضان فصام ، ومثل المسافر في يوم الغيم وغيرهما إذا اجتهدوا فصلوا الظهر : قبل الزوال أو المغرب قبل الغروب ; فهؤلاء في وجوب الإعادة عليهم قولان معروفان للعلماء . والنزاع في ذلك في مذهب مالك والشافعي . والمعروف من مذهب أحمد أنه لا يجزئهم ، ولو فعلوا ذلك في الوقت المشترك ، كصلاة العصر في وقت الظهر ، والعشاء قبل مغيب الشفق ، فقياس الصحيح من مذهب أحمد أن ذلك يجزئ ، فإنه جمع لعذر وهو لا يشترط النية ، وقد نص على أن المسافر إذا صلى العشاء قبل مغيب الشفق أجزأه لجواز الجمع له ، وإن كان لم يصلها مع المغرب ، ولهذا يستحب له مع أمثاله تأخير الظهر وتقديم العصر ، وتأخير المغرب وتقديم العشاء ، كما نقل عن السلف . فدل على أن الثانية إذا فعلت هنا قبل الوقت الخاص أجزأته .

                  قالوا : فالنزاع في صحة مثل هذه الصلاة ، كالنزاع في رمي الجمار [ لا يفعل بعد الوقت ] [57] .

                  قال لهم الأولون : ما قستم عليه من الجمعة والحج ورمي الجمار لا يفعل بعد الوقت المحدود في الشرع بحال ، لا لمعذور ولا لغير معذور [58] . فعلم أن هذه الأفعال مختصة بزمان كما هي مختصة بمكان .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية