الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والفقهاء متفقون على أن أفعال البر تنقسم إلى واجب ومستحب ، والمستحب هو ما أحبه الله ورسوله ، وأن المنهي عنه [1] كله مكروه ، كرهه الله ورسوله . والكراهة نوعان : كراهة تحريم ، وكراهة تنزيه .

                  وقد قال - تعالى - لما ذكر المحرمات : كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها [ سورة الإسراء : 38 ] . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله يكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة [ ص: 301 ] المال " [2] وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال : " إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب "

                  [3] قالوا : فهذا دليل على أنه يكون في العالم ما هو مكروه لله ، [ فلا يكون مرادا لله ] [4] فيكون في العالم ما لا يريده الله ، وهو ما لم يأمر الله به أو ينه عنه [5] .

                  قالوا : والأمر لا يعقل أمرا إلا بإرادة الآمر لما أمر به من المأمور ، ومن قدر أن الآمر يطلب المأمور به طلبا لا يكون إرادة ولا مستلزما للإرادة ، فهذا قد ادعى ما يعلم فساده بالضرورة ، وما يحتج به من التمثيل بأمر الممتحن ، فذاك لم يكن طالبا [6] للمأمور به ، ولا مريدا له في الباطن ، بل أظهر أنه مريد طالب .

                  [ وقالوا ] [7] : قد قال الله - تعالى - : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ سورة البقرة : 185 ] .

                  [ ص: 302 ] وقال تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ) [ سورة المائدة : 6 ] .

                  وقال - تعالى - : ( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) [ سورة النساء : 26 - 28 ] .

                  وقال الله - تعالى - : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) [ سورة الأحزاب : 33 ] .

                  فهذه المرادات كلها قد أمر بها عباده ، فمنهم من أطاع ، ومنهم من عصى ، فعلم أنه قد يريد من العباد ما لا يفعلونه ، كما يأمرهم [8] بما لا يفعلونه .

                  قالت القدرية الجبرية من الجهمية ، ومن اتبعهم : بل إرادته - تعالى - تتناول ما وجد دون ما لم يوجد ، فإن المسلمين متفقون على قولهم : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولأن إرادة ما علم أنه لا يكون تمن . وقد قال سبحانه : ( ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) [ سورة إبراهيم : 27 ] ، فكل ما يشاؤه فقد فعله .

                  وقال تعالى : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) [ سورة السجدة : 13 ] فعلم أنه لم يشأ ذلك ، فلم يرد هدى كل أحد ، وإن كان قد أمر به .

                  [ ص: 303 ] وقال تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) [ سورة الأنعام : 125 ] ، فعلم أنه يريد الإضلال ، كما يريد شرح الصدر للإسلام .

                  وقال نوح : ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ) [ سورة هود : 34 ] ، فدل على أنه يريد إغواء من غوى .

                  وقد قال - تعالى - : ( الله خالق كل شيء ) [ سورة الرعد : 16 ] ، فكل ما وجد من أفعال [ العباد ] [9] . وغيرها فإن الله خالقه .

                  [ قالوا ] [10] : وما أراده فقد أحبه ورضيه ، وقوله : ( لا يحب الفساد ) [ سورة البقرة : 205 ] أي : ممن لم يفسد ، أو لا يحبه دينا [11] .

                  وكذلك قوله : ( ولا يرضى لعباده الكفر ) [ سورة الزمر : 7 ] أي : ممن لم يكفر ، أو لا يرضاه [12] دينا ، كما أنه لا يحب الإيمان ممن لم يؤمن ، أو لا يحبه غير دين .

                  قال المنازعون لهم من المعتزلة وغيرهم : فقد قال : ( إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ) [ سورة النساء : 108 ] . وأولئك منافقون ، وذاك القول محرم عليهم ، وهو واقع منهم ، وقد أخبر أنه لا يرضاه ، فعلم أنه [13] . ما وقع من المعاصي لا يرضاه .

                  وكذلك قوله : ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ) [ ص: 304 ] [ سورة الزمر : 7 ] : أخبر أنه لا يرضاه بتقدير وقوعه ، ولا يقال : إنه يرضى كل موجود .

                  وقولكم : لا يرضاه دينا ، فالرضا في كتاب الله متعلق بنفس الفعل ، [ لا بشيء ] [14] محذوف ، وكونه لا يرضاه دينا عندكم ، معناه : لا يريد أن يثيب صاحبه عليه ، ومعلوم أن إبليس والشياطين لا يرضونه دينا بهذا الاعتبار ، مع أن إبليس يرضى الكفر ويختاره ، فإنه قد يحب ما يبغضه الله ويبغض ما يحبه [ الله ] [15] ليغوي الناس بذلك .

                  قال الله تعالى عنه : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) [ سورة الكهف : 50 ] وقال تعالى : ( ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ) [ سورة يس : 60 - 61 ] . قالوا : والأمة متفقة على أن الله - سبحانه - يحب الإيمان والعمل الصالح ، ويحب المتقين والمحسنين ، ويحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ويحب المقسطين ، ولا يحب المعاصي ولا يرضاها .

                  واحتجاجنا بهذا الإجماع أقوى من احتجاجكم بقولهم [16] : " ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن " فإنهم كلهم يقولون : إن الصلاة والصدقة والأعمال الصالحة يرضاها الله ورسوله ، ويحبها الله ورسوله ، ويقولون عن الفواحش والظلم : هذا لا يرضاه الله ورسوله ، ولا يحبه الله ورسوله .

                  [ ص: 305 ] فأنتم خالفتم الكتاب والسنة والإجماع في قولكم : إن كل ما وقع من الكفر [ والفسوق ] [17] والعصيان فإن الله يحبه ويرضاه .

                  قالت القدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم : أنتم تقولون : إن الله لم يختص المؤمنين بنعمة اهتدوا بها ، بل نعمته على الكفار والمؤمنين في الإيمان سواء ، وهذا خلاف الشرع [ والعقل ] [18] ; فإن الله تعالى يقول : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ) [ سورة الحجرات : 7 ] .

                  وقال تعالى : ( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ سورة الحجرات : 17 ] .

                  وقال تعالى : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ) [ سورة الأنعام : 53 ] ، وقال : ( ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ) [ سورة النور : 21 ] .

                  وقال تعالى : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) [ سورة الأنفال : 24 ] .

                  وقال الخليل - عليه السلام - : ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) [ سورة البقرة : 128 ] .

                  وقال : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) [ سورة إبراهيم : 35 - 36 ] ، وقال تعالى : ( لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) [ سورة التكوير : 28 - 29 ] .

                  [ ص: 306 ] وقال : ( فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ) [ سورة المزمل : 19 ] .

                  [ وقال ] [19] : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ) [ سورة الإنسان : 30 ] .

                  وقال : ( فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة ) [ سورة المدثر : 55 - 56 ] .

                  وقد أمرنا أن نقول في الصلاة : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) [ سورة الفاتحة : 6 - 7 ] .

                  والذين أنعم الله عليهم : هم [20] المذكورون في قوله - تعالى - : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ) [ سورة النساء : 69 ] .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية