والإنعام المطلق إنما يدخل فيه المؤمنون ، فدل ذلك على [ أن ] الطاعة [1] الحاصلة من المؤمنين هو الذي أنعم بها ، ولو كانت نعمته عليهم كنعمته على الكفار لكان الجميع من المنعم عليهم ، أهل الصراط المستقيم .
غير المغضوب عليهم ) [ سورة الفاتحة : 7 ] صفة لا استثناء وقوله تعالى : ( [2] ; لأنه خفض " غير " كما تقول العرب : إني لأمر بالصادق غير [ ص: 307 ] الكاذب . فالمغضوب عليهم والضالون لم يدخلوا في المنعم عليهم حتى يخرجوا ، بل بين أن هؤلاء مغايرون لأولئك ، كمغايرة الصادق للكاذب .
وقد قال تعالى : ( من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) [ سورة الكهف : 17 ] فدل على أن كل من هداه الله اهتدى ، ولو هدى الكافر كما هدى المؤمن لاهتدى .
وقال الخليل : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي ) [ سورة إبراهيم : 40 - 41 ] فتبين أنه سبحانه هو الذي يجعله مقيم الصلاة .
[ وقال تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) ] [3] [ سورة الأنبياء : 73 ] . وقال تعالى : ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ) [ سورة القصص : 41 ] فهو الذي جعل هؤلاء أئمة هدى وهؤلاء أئمة ضلال .
وقال تعالى : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) [ سورة آل عمران : 159 ] فبين أن لينه برحمة من الله .
وقال أهل الجنة : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ) [ سورة الأعراف : 43 ] .
وقال - تعالى - لما ذكر الأنبياء : ( ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ) إلى قوله : [ ص: 308 ] أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ سورة الأنعام : 87 - 90 ] فأخبر : أنه يخص بهذا الهدى من يشاء من عباده ، وأخبر : أن هؤلاء هم الذين هداهم الله ، فعلم أنه خص بهذا الهدى من اهتدى به دون من لم يهتد به [4] ، ودل على تخصيص المهتدين بأنه هداهم ولم يهد من لم يهتد .
والهدى يكون بمعنى البيان والدعوة ، وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر . كقوله - تعالى - : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) [ سورة فصلت : 17 ] .
ويكون بمعنى جعله [5] مهتديا ، وهذا يختص بالمؤمنين ، وهو المطلوب بقوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) [ سورة الفاتحة : 7 ] ، وبقوله : ( هدى للمتقين ) [ سورة البقرة : 2 ] . وذلك أن هدى بمعنى دل وأرشد قد يكون بالقوة ، فهذا مشترك ، وقد يكون بالفعل فهذا مختص . كما تقول [6] : علمته فتعلم ، وعلمته فما تعلم . وكذلك : هديته فاهتدى ، وهديته فما اهتدى ، فالأول مختص بالمؤمنين ، والثاني مشترك .
وليس تعليمه وهداه كتعليم البشر بعضهم بعضا ، فإن المعلم يقول ، والمتعلم يتعلم بأسباب لا يقدر عليها المعلم ، والله - تعالى - هو الذي يجعل العلم في قلوب [7] من علمه . ولهذا يطلب منه ذلك فيقال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ولا يقال ذلك للبشر [8] ; فإنهم لا يقدرون عليه .
[ ص: 309 ] ويطلب العبد من الله أن يفهمه ويعلمه [9] ويشرح صدره ، وأن يحبب إليه الإيمان والعمل الصالح ، ولا يطلب هذا من غير الله .
قال تعالى : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) [ سورة الزمر : 22 ] .
وقال : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) [ سورة الأنعام : 125 ] .
وقال : ( ففهمناها سليمان ) [ سورة الأنبياء : 79 ] ، فخص سليمان بالتفهيم مع أنهما كانا حاكمين ، لم يخص أحدهما بعلم ظاهر ، وقال تعالى : ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) [ سورة الشمس : 7 - 8 ] .
" وكانت أكثر يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ومقلب القلوب [10] .
وقال : " " ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع [ ص: 310 ] الرحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه [11] .
و [ قد ] قال [ تعالى ] في دعاء [12] المؤمنين : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) [ سورة آل عمران : 8 ] .
وقال تعالى : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) [ سورة الكهف : 39 ] .
وقال : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) [ سورة يونس : 99 ] .
وقال : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ) [ سورة هود : 118 ] .
وقال : ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) [ سورة البقرة : 253 ] .
وقال : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) [ سورة السجدة : 13 ] .
وقال : ( ولو شاء ربك ما فعلوه ) [ سورة الأنعام : 112 ] .
وقال : ( ولو شاء الله ما أشركوا ) [ سورة الأنعام : 107 ] .
وقال : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) [ ص: 311 ] [ سورة يس : 8 - 9 ] .
والآيات والنصوص المثبتة للقدر كثيرة جدا ، وهذا كله حجة على بطلان قول المعتزلة ، وغيرهم من القدرية النافية ، فصار مع هؤلاء نصوص يقولون بها ، ومع هؤلاء نصوص . وكل من الطائفتين يتأول نصوص الأخرى بتأويلات فاسدة ، ويضم إلى النصوص التي يحتج [13] بها أمور لا تدل عليها النصوص .
وأما أهل السنة والحديث ، من الصحابة والتابعين [ لهم بإحسان ، وأئمة المسلمين ] وعلماء أهل السنة والحديث - رضي الله عنهم - فآمنوا [14] بالكتاب كله ، ولم يحرفوا شيئا من النصوص ، وقالوا : نحن نقول : " " ونقول : إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ، فكل ما سوى الله مخلوق له ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن [15] ، حادث بمشيئته وقدرته ، ولا يكون في ملكه ما لا يشاؤه ويخلقه ، فلا يقدر أحد أن يمنع الله عما أراد أن يخلقه ويكونه ، فإن الواحد القهار ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده [ وهو العزيز الحكيم ] ) ] [16] [ سورة فاطر : 2 ] .
وقالوا : إن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح ، وينهى عن الكفر والفسوق والعصيان ، ويحب كل ما أمر به ويرضاه ، ويكره ما نهى عنه [ ص: 312 ] ويسخطه ، وهو - سبحانه - لا يحب الفساد ، ولا يرضى لعباده الكفر .
قالوا : وليس كل ما أمر العباد به وأراد منهم أن يفعلوه ، أراد هو أن يخلقه لهم ويعينهم عليه ، بل إعانته على الطاعة لمن أمره بها فضل منه كسائر النعم ، وهو يختص برحمته من يشاء .
والطائفتان غلطوا من حيث أنهم [ لم ] [17] يميزوا بين إرادته لما يخلقه في عباده ، وإرادته لما يأمر به عباده ، وقد قال سبحانه : ( ألا له الخلق والأمر ) [ سورة الأعراف : 54 ] ، فالرب خالق كل شيء ، وكل ما خلقه فبإرادته خلقه ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فما لم يكن لم يرد أن يخلقه ، وما كان فقد أراد أن يخلقه ، وهو لا يريد [ أن يخلق ] [18] إلا ما سبق علمه بأنه سيخلقه ، فإن العلم يطابق المعلوم .