فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن لا إله إلا الله [ وحده لا شريك له ] [5] ، الأحد الصمد ، الذي لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد . هذا هو التوحيد الظاهر الجلي ، الذي نفى الشرك الأعظم ، وعليه نصبت القبلة ، وبه وجبت الذمة ، وبه حقنت الدماء والأموال ، وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر ، وصحت به الملة للعامة ، وإن لم يقوموا بحسن [6] الاستدلال ، بعد أن سلموا [7] من الشبهة والحيرة والريبة ، بصدق شهادة صححها قبول القلب .
هذا [8] توحيد العامة الذي يصح بالشواهد ، والشواهد هي الرسالة ، والصنائع تجب [9] بالسمع ، وتوجد [10] بتبصير الحق ، وتنمو [11] على مشاهدة [12] الشواهد " .
[ ص: 344 ] قال [13] : " وأما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة . وهو إسقاط الأسباب الظاهرة ، والصعود عن [14] منازعات العقول [15] ، وعن التعلق بالشواهد ، وهو أن لا يشهد [16] في التوحيد دليلا ، ولا في التوكل سببا ، ولا في النجاة [17] وسيلة [18] ، فيكون [19] مشاهدا سبق [20] الحق بحكمه وعلمه ، ووضعه الأشياء مواضعها ، وتعليقه [21] إياها بأحايينها ، وإخفائه [22] إياها في رسومها [23] ، ويحقق [24] معرفة العلل ، ويسلك [25] سبيل إسقاط الحدث [26] . هذا توحيد [27] الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ، ويصفو في علم الجمع ، ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع " . قال [28] : " وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه ، [ ص: 345 ] واستحقه بقدره ، وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته ، وأخرسهم عن نعته ، وأعجزهم عن بثه . والذي يشار [ به ] [29] إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث [30] ، وإثبات القدم ، على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة ، لا يصح [ ذلك التوحيد ] [31] إلا بإسقاطها .
هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء أهل هذا الطريق [32] ، وإن زخرفوا له نعوتا ، وفصلوه فصولا [33] ، فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء [34] ، والصفة نفورا ، والبسط صعوبة ، وإلى هذا التوحيد [35] شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال ، وإليه [36] قصد أهل التعظيم ، وإياه [37] عنى المتكلمون في عين الجمع ، وعليه تصطلم الإشارات ، ثم لم ينطق عنه [38] لسان ، ولم تشر إليه عبارة ، فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون ، أو يتعاطاه خبر [39] ، أو يقله سبب " .
قال [40] : " وقد أجبت في سالف الدهر [41] سائلا سألني عن الصوفية [ ص: 346 ] بهذه القوافي الثلاث : توحيد
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته
عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده
ونعت من ينعته لاحد
قلت : وقد بسطت [42] الكلام على [ هذا وأمثاله ] في غير [43] هذا الموضع ، لكن ننبه هنا على ما يليق بهذا الموضع ، فنقول ؟ أما التوحيد [ الأول ] [44] الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل .
قال تعالى : ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) [ سورة الزخرف : 45 ] .
وقال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) [ سورة النحل : 36 ] .
وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) [ سورة الأنبياء : 25 ] .
وقد أخبر الله - تعالى - عن كل من الرسل ، مثل نوح وهود ، وصالح وشعيب ، وغيرهم ، أنهم قالوا لقومهم : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . وهذا أول دعوة الرسل وآخرها .
[ ص: 347 ] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المشهور : " " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله [45] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أيضا : " " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة [46] . وقال : " " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة [47] .
والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه ، وتعليق النجاة والفلاح ، واقتضاء السعادة في الآخرة به . ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه ، وحقيقته إخلاص الدين كله لله . والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء [48] ، وهو أن تثبت إلهية الحق في قلبك ، وتنفي إلهية ما سواه ، فتجمع بين النفي والإثبات ، فتقول : لا إله إلا الله ، فالنفي هو الفناء ، والإثبات هو البقاء . وحقيقته أن تفنى بعبادته عما سواه ، [ ومحبته عن محبة ما سواه ] [49] ، وبخشيته عن خشية ما سواه ، وبطاعته عن طاعة ما سواه ، وبموالاته عن موالاة ما سواه ، وبسؤاله عن سؤال ما سواه ، وبالاستعاذة به عن الاستعاذة [50] بما سواه ، وبالتوكل عليه عن التوكل على [ ص: 348 ] ما سواه ، وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه ، وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه ، وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه ، وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه .
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [51] بعد التكبير * ) [52] : " اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات [53] والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد [54] أنت الحق ، وقولك الحق ، ووعدك الحق [55] ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق ، اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت ; فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " كان يقول : ( * إذا قام يصلي من الليل ، وقد روي أنه كان يقوله [56] .
وقال - تعالى - : ( قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ) [ سورة الأنعام : 14 ] .
[ ص: 349 ] وقال : ( أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا ) [ سورة الأنعام : 114 ] .
وقال : ( أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ) [ سورة الزمر : 64 - 66 ] .
وقال - تعالى - : ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) [ سورة الأنعام : 161 - 164 ] .
وهذا التوحيد كثير في القرآن ، وهو أول الدين وآخره ، وباطن الدين وظاهره ، وذروة سنام هذا التوحيد لأولي العزم من الرسل ، ثم للخليلين محمد وإبراهيم - صلى الله عليهما وسلم تسليما - . فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه أنه قال : " إبراهيم خليلا " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ [57] .