قال تعالى : ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) [ سورة الممتحنة : 4 - 6 ] .
وقال تعالى : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) [ سورة الزخرف : 26 - 28 ] .
[ ص: 351 ] وقال عن إبراهيم أنه قال : ( ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ) [ سورة الأنعام : 78 - 83 ] .
وقال : ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) [ سورة الشعراء : 75 - 77 ] .
والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه [2] ، فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل :
قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا
وقد قيل : إنه [ مأخوذ من الخليل ، وهو الفقير ، مشتق من الخلة بالفتح . كما قيل : [ ص: 352 ]
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
والصواب أنه [4] من الأول ، وهو مستلزم للثاني فإن كمال ] [5] حبه لله هو محبة عبودية وافتقار ، ليست كمحبة الرب لعبده ، فإنها محبة استغناء وإحسان .
ولهذا قال - تعالى - : ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) [ سورة الإسراء : 111 ] .
فالرب لا يوالي عبده من ذل [6] ، كما يوالي المخلوق لغيره ، بل يواليه إحسانا إليه ، والولي من الولاية ، والولاية ضد العداوة . وأصل الولاية الحب ، وأصل العداوة البغض ، وإذا قيل : هو مأخوذ من الولي ، وهو القرب . فهذا جزء معناه [7] ، فإن الولي يقرب إلى [8] وليه ، والعدو يبعد عن عدوه . ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب ، لم يصلح للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالل مخلوقا [9] ، بل قال : " خليلا ، ولكن صاحبكم خليل الله أبا بكر " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت [10] .
[ ص: 353 ] ولهذا إبراهيم بذبح ابنه . والذبيح على القول الصحيح ابنه الكبير امتحن الله إسماعيل ، كما دلت على ذلك سورة " الصافات " وغير ذلك ، فإنه قد كان [11] سأل ربه أن يهب له من الصالحين ، فبشره بالغلام الحليم إسماعيل ، فلما بلغ معه السعي أمره أن يذبحه ، لئلا يبقى في قلبه محبة مخلوق تزاحم محبة الخالق ، إذ كان قد طلبه وهو بكره .
وكذلك في التوراة يقول : " اذبح ابنك وحيدك " ، وفي ترجمة أخرى " بكرك " ، ولكن ألحق المبدلون لفظ إسحاق ، وهو باطل [12] . فإن إسحاق هو الثاني من أولاده [13] باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، فليس هو وحيده ولا بكره ، وإنما وحيده وبكره إسماعيل .
ولهذا لما ذكر الله قصة الذبيح في القرآن قال بعد هذا : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) [ سورة الصافات : 112 ] . وقال في الآية الأخرى فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ سورة هود : 71 ] . فكيف يبشره بولد ثم يأمره بذبحه ؟ .
والبشارة بإسحاق وقعت لسارة ، وكانت قد غارت من هاجر لما ولدت إسماعيل ، وأمر الله إبراهيم أن يذهب بإسماعيل وأمه إلى مكة ، ثم لما جاء الضيف - وهم الملائكة - لإبراهيم ، بشروها [14] بإسحاق ، فكيف يأمره بذبح إسحاق مع بقاء إسماعيل ؟ .
وهي لم تصبر على وجود إسماعيل وحده ، بل غارت أن يكون له ابن [ ص: 354 ] من غيرها ، فكيف تصبر على ذبح ابنها وبقاء ابن ضرتها ؟ وكيف يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه [15] وأمه مبشرة به وبابن ابنه [ يعقوب ] [16] ؟ وأيضا [17] فالذبح إنما كان بمكة ، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قرني الكبش في البيت فقال للحاجب : " الكعبة ، فخمرهما [18] ; فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء يلهي المصلي " إني رأيت قرني الكبش في [19] . وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة بنص القرآن ، وإسحاق [20] كان في الشام . والمقصود بالأمر بالذبح أن لا يبقى في قلبه محبة لغير الله تعالى . وهذا إذا كان له ابن واحد ، فإذا صار له ابنان ، فالمقصود لا [ ص: 355 ] يحصل إلا بذبحهما جميعا . وكل من قال : إنه إسحاق ، فإنما أخذه عن اليهود ، أهل التحريف والتبديل ، كما أخبر الله - تعالى - عنهم .
[ وقد بسطنا هذه المسألة في مصنف مفرد ] [21] .
والمقصود هنا أن الخليلين هما أكمل خاصة الخاصة توحيدا ; فلا يجوز أن يكون في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء ، فضلا عن الرسل ، فضلا عن أولي العزم ، فضلا عن الخليلين .
وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية ، وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا ، بل يبقى العبد[22] مواليا لربه في كل شيء ، يحب ما أحب ، ويبغض ما أبغض ، ويرضى بما رضي [23] ، ويسخط بما سخط [24] ، ويأمر بما أمر ، وينهى عما نهى .
وأما التوحيد الثاني الذي ذكره وسماه " توحيد الخاصة " ، فهو الفناء في توحيد الربوبية ، وهو أن يشهد ربوبية [25] الرب لكل ما سواه ، وأنه وحده رب كل شيء ومليكه ، والفناء إذا كان في توحيد الألوهية : وهو [26] أن [ ص: 356 ] يستولي على القلب شهود معبوده وذكره ومحبته ، حتى لا يحس بشيء آخر ، مع العلم بثبوت ما أثبته الحق من الأسباب والحكم ، وعبادته وحده لا شريك له بالأمر والنهي ، ولكن غلب على القلب شهود الواحد ، كما يقال : غاب بموجوده عن وجوده ، وبمعبوده عن عبادته ، وبمذكوره عن ذكره ، وبمعروفه عن معرفته .
كما يذكر أن رجلا كان يحب آخر ، فوقع المحبوب في اليم ، فألقى المحب نفسه خلفه ، فقال له : أنا وقعت فلماذا وقعت أنت ؟ فقال : غبت بك عني ، فظننت أن أني [27] . فصاحب هذا الفناء إذا غلب [28] في ذلك فهو معذور ، لعجزه عند غلبة ذكر الرب على قلبه عن شعوره بشيء آخر ، كما يعذر من سمع الحق فمات أو غشي عليه ، وكما عذر موسى - صلى الله عليه وسلم - لما صعق حين تجلى ربه للجبل .
وليس هذا الحال غاية السالكين ، ولا لازما لكل سالك . [ ومن الناس من يظن أنه لا بد لكل سالك ] [29] منه ، وليس كذلك . فنبينا - صلى الله عليه وسلم - والسابقون الأولون ، هم أفضل . وما أصاب أحدا منهم هذا الفناء ولا صعق ولا موت [30] عند سماع القرآن . وإنما تجد [31] هذا الصعق في التابعين ، لا سيما في عباد البصريين .
[ ص: 357 ] ومن الناس من يجعل هذا الفناء هو الغاية التي ينتهي إليها سير العارفين . وهذا أضعف [ من الذي قبله ] [32] . وما يذكر عن أبي يزيد البسطامي [33] من قوله : " ما في الجبة إلا الله " وقوله : " أين أبو يزيد ؟ أنا أطلب أبا يزيد منذ كذا وكذا سنة " ونحو ذلك [34] ، فقد حملوه على أنه كان من هذا الباب ; ولهذا يقال عنه : إنه كان إذا أفاق أنكر هذا .
فهذا ونحوه كفر ، لكن ، كالنوم [ ص: 358 ] والإغماء ، لم يكن مؤاخذا بما يصدر عنه في حال عدم التكليف ، ولا ريب أن هذا من ضعف العقل والتمييز . إذا زال العقل بسبب يعذر فيه الإنسان
وأما الفناء الذي يذكره صاحب " المنازل " فهو الفناء في توحيد الربوبية ، لا في توحيد الإلهية [35] ، وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم ، كما هو قول القدرية المجبرة [36] ، ومن اتبعه ، كالجهم بن صفوان وغيره . والأشعري
وشيخ الإسلام [37] ، وإن كان - رحمه الله - من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات ، وقد صنف كتابه " الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة " [38] وصنف كتاب " تكفير الجهمية " [39] وصنف كتاب " ذم الكلام وأهله " [40] ، وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات ، لكنه في القدر على رأي الجهمية ، نفاة الحكم والأسباب .