الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  وأما قوله : " ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع " فسيأتي . وهؤلاء شربوا من العين التي شرب منها نفاة القدر ، فإن أولئك الذين قالوا : الأمر أنف . قالوا : إذا سبق علمه وحكمه بشيء ، امتنع أن يأمر بخلافه ، ووجب وجوده . وفي ذلك إبطال الأمر والنهي ، لكن أولئك كانوا معظمين [1] للأمر والنهي ; فظنوا أن إثبات ما سبق من العلم والحكم ينافيه ، فأثبتوا الشرع ونفوا القدر .

                  وهؤلاء اعتقدوا ذلك أيضا ، لكن أثبتوا القدر ونفوا عمن شاهده أن يستحسن حسنة يأمر بها ، أو يستقبح سيئة ينهى عنها ; فأثبتوا القدر ، وأبطلوا الشرع عمن شاهد القدر . وهذا القول أشد منافاة لدين الإسلام من قول نفاة القدر .

                  قال : " وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه ، واستحقه بقدره . . . إلى آخر كلامه " وقد تقدم حكايته . فهؤلاء هم الذين أنكر عليهم أئمة الطريق ، كالجنيد وغيره ، حيث لم يفرقوا بين القديم والمحدث ، وحقيقة قول هؤلاء الاتحاد والحلول الخاص ، من جنس قول النصارى في المسيح ، وهو أن يكون الموحد هو الموحد ، ولا يوحد [ ص: 371 ] الله إلا الله ، وكل من جعل غير الله يوحد الله فهو جاحد عندهم ، كما قال :

                  ما وحد الواحد من واحد ( أي من واحد غيره ) إذ كل من وحده جاحد

                  فإنه على قولهم : هو الموحد والموحد . ولهذا قال :

                  توحيد من ينطق عن نعته     عارية أبطلها الواحد



                  يعني إذا تكلم العبد بالتوحيد ، وهو يرى أنه المتكلم ، فإنما ينطق عن نعت نفسه ، فيستعير ما ليس له ، فيتكلم به ، وهذه عارية أبطلها الواحد ، ولكن إذا فنى عن شهود نفسه ، وكان الحق هو المتكلم على لسانه ، حيث فنى من لم يكن ، وبقي من لم يزل ، فيكون الحق هو الناطق بنعت نفسه ، لا بنعت العبد ، ويكون هو الموحد وهو الموحد ، ولهذا قال : توحيده إياه توحيده - أي توحيد الحق إياه - أي : نفسه هو [2] ، توحيده هو ، لا توحيد المخلوقين له ) فإنه لا يوحده عندهم مخلوق ، بمعنى أنه هو الناطق بالتوحيد على لسان خاصته ، ليس الناطق هو المخلوق ، كما يقوله النصارى في المسيح : إن اللاهوت تكلم بلسان الناسوت .

                  وحقيقة الأمر أن كل من تكلم بالتوحيد أو تصوره ، وهو يشهد غير الله ، فليس بموحد [3] عندهم . وإذا غاب وفنى عن نفسه بالكلية ; فتم له مقام توحيد الفناء [4] ، الذي يجذبه [5] ، إلى توحيد أرباب الجمع ، صار الحق هو [ ص: 372 ] الناطق المتكلم بالتوحيد ، وكان هو الموحد ، وهو الموحد ، لا موحد غيره .

                  وحقيقة هذا القول لا يكون إلا بأن يصير الرب والعبد شيئا واحدا ، وهو الاتحاد فيتحد اللاهوت والناسوت ، كما يقول النصارى : إن المتكلم بما كان يسمع من المسيح هو الله . وعندهم أن الذين سمعوا منه هم رسل الله ، وهم عندهم أفضل من إبراهيم وموسى [6] .

                  ولهذا تكلم بلفظ اللاهوت والناسوت طائفة من الشيوخ الذين وقعوا في الاتحاد والحلول مطلقا ومعينا ، فكانوا ينشدون قصيدة ابن الفارض ، ويتحلون بما فيها من تحقيق الاتحاد العام ، ويرون كل ما في الوجود هو مجلى ومظهر ، ظهر فيه عين الحق ، وإذا رأى أحدهم منظرا حسنا [7] أنشد :

                  يتجلى في كل طرفة عين     بلباس [8] من الجمال جديد



                  وينشد الآخر :

                  هيهات يشهد ناظري معكم سوى     إذا أنتم عين الجوارح والقوى



                  ( * وينشد الثالث :

                  أعاين في كل الوجود جمالكم     وأسمع من كل الجهات نداكم
                  [9]

                  [ ص: 373 ] وتلتذ [10] إن مرت على جسدي يدي     لأني في التحقيق لست سواكم



                  * ) [11] ولما كان ظهور قول النصارى بين المسلمين مما يظهر أنه باطل ، لم يمكن أصحاب هذا الاتحاد أن يتكلموا به كما تكلمت به النصارى ، بل صار عندهم مما يشهد ولا ينطق به ، وهو عندهم من الأسرار التي لا يباح بها ، ومن باح بالسر قتل .

                  وقد يقول بعضهم : إن الحلاج لما باح [12] بهذا السر وجب قتله ; ولهذا قال [13] : " هو توحيد اختصه الحق لنفسه ، واستحقه بقدره ، وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته ، وأخرسهم عن نعته ، وأعجزهم عن بثه " .

                  فيقال : أما توحيد الحق نفسه [14] بنفسه ، وهو علمه بنفسه وكلامه الذي يخبر به عن نفسه ، كقوله : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [ سورة آل عمران : 18 ] ، وقوله : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) [ سورة طه : 14 ] ; فذاك صفته القائمة به ، كما تقوم به سائر صفاته من حياته وقدرته ، وغير ذلك .

                  وذلك لا يفارق ذات الرب وينتقل إلى غيره أصلا ، كسائر صفاته ، بل صفات المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره ، فكيف بصفات الخالق ؟ ! .

                  [ ص: 374 ] ولكن هو - سبحانه - ينزل [15] على أنبيائه من علمه وكلامه ما أنزله [16] ، كما أنزل القرآن [17] ، وهو كلامه ، على خاتم الرسل .

                  وقد قال - سبحانه - : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) [ سورة آل عمران : 18 ] ، فهو سبحانه يشهد لنفسه بالوحدانية ، والملائكة يشهدون ، وأولو العلم من عباده يشهدون ، والشهادات متطابقة متوافقة .

                  وقد يقال : هذه الشهادة هي هذه ، بمعنى أنها نوعها ، وليس نفس صفة المخلوق هي نفس صفة الخالق ، ولكن كلام الله الذي أنزله على رسوله هو القرآن الذي يقرؤه المسلمون ، وهو كلامه - سبحانه - مسموعا من المبلغين له ، ليس تلاوة العباد له وسماع بعضهم من بعض ، بمنزلة سمع موسى له من الله بلا واسطة ، فإن موسى سمع نفس كلام الرب ، كما يسمع كلام المتكلم منه ، كما يسمع الصحابة كلام الرسول منه ، وأما سائر الناس فسمعوه مبلغا عن الله ، كما يسمع [18] التابعون ومن بعدهم كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - مبلغا عنه .

                  ولهذا قال لرسوله : ( بلغ ما أنزل إليك من ربك ) [ سورة المائدة : 67 ] ، وقال : ( ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) [ سورة الجن : 28 ] .

                  وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بلغوا عني [ ولو آية ] " [19] . وقال : [ ص: 375 ] " نضر الله امرأ سمع منا [20] حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه ; فرب حامل فقه غير فقيه [21] ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " [22] . وقال : " ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي ، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " [23] .

                  وقول القائل : " وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته ، وأخرسهم عن نعته ، وأعجزهم عن بثه " .

                  فيقال : أفضل صفوته هم الأنبياء ، وأفضلهم الرسل ، وأفضل الرسل أولو العزم ، وأفضل أولي العزم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وما ألاحه الله على أسرار هؤلاء فهو أكمل توحيد عرفه العباد ، وهم قد تكلموا بالتوحيد ونعتوه وبثوه ، وما يقدر أحد قط أن ينقل عن نبي من الأنبياء ، ولا [ ص: 376 ] وارث نبي ، أنه يدعي أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به ، بل كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه ، لكن قد لا يفهمه إلا بعض الناس .

                  فأما أن يقال : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - عاجز عن أن يبين ما عرفه الله من توحيده . فهذا ليس كذلك .

                  ثم يقال : إن أريد بهذا اللائح أن يكون الرب نفسه هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لاتحاده بهم ، أو حلوله فيهم . فهذا قول النصارى ، وهو باطل شرعا وعقلا .

                  وإن أريد أنه يعرف صفوته من توحيده ومعرفته والإيمان به ما لا يعرفه غيرهم . فهذا حق ، لكن ما قام بقلوبهم ليس هو نفس الرب [ الخالق ] تعالى [24] ، بل هو العلم به ومحبته ومعرفته وتوحيده .

                  وقد يسمى المثل الأعلى ، ويفسر به قوله - تعالى - : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض [ سورة الروم : 27 ] أي في قلوب أهل السماوات والأرض ، ويقال له : المثال الحبي والمثال العلمي [25] . وقد يخيل لناقص العقل إذا أحب شخصا محبة تامة ، بحيث فني في حبه ، حتى لا يشهد في قلبه غيره ، أن نفس المحبوب صار [26] في قلبه ، وهو غالط [27] في ذلك ، بل المحبوب في موضع آخر : إما في بيته ، وإما في المسجد [28] ، وإما في [ ص: 377 ] موضع آخر . ولكن الذي في قلبه هو مثاله .

                  وكثيرا ما يقول القائل : أنت في قلبي ، وأنت في فؤادي ، والمراد هذا المثال ; لأنه قد علم أنه لم يعن ذاته ، فإن ذاته منفصلة عنه . كما يقال : أنت بين عيني ، وأنت دائما على لساني [29] ، كما قال الشاعر :

                  مثالك في عيني وذكرك في فمي     ومثواك في قلبي فكيف تغيب

                  [30]

                  وقال آخر :

                  ساكن في القلب يعمره     لست أنساه فأذكره



                  فجعله ساكنا عامرا للقلب لا ينسى ، ولم يرد أن ذاته حصلت في قلبه كما يحصل [31] الإنسان الساكن في بيته ، بل هذا الحاصل هو المثال العلمي . ( * وقال آخر :

                  ومن عجب أني أحن إليهم     وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
                  وتطلبهم عيني وهم في سوادها     ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي * )

                  [32]

                  ومن هذا الباب قول القائل : " القلب بيت الرب " وما يذكرونه في الإسرائيليات من قوله : " ما وسعتني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ، التقي النقي ، الورع [33] اللين [34] " ، فليس المراد أن الله [ ص: 378 ] نفسه يكون في قلب كل عبد ، بل في القلب معرفته ، ومحبته ، وعبادته .

                  والنائم يرى في المنام إنسانا يخاطبه ويشاهده ، ويجري معه فصولا [35] ، وذلك المرئي قاعد في بيته ، أو ميت في قبره ، وإنما رأى مثاله . وكذلك يرى في المرآة الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من المرئيات ، ويراها تكبر بكبر المرآة ، وتصغر بصغرها ، وتستدير باستدارتها ، وتصفوا بصفائها ، وتلك مثال المرئيات القائمة بالمرآة ، وأما نفس الشمس التي في السماء ، فلم تصر ذاتها في المرآة .

                  وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء في مثل هذا ، وكان ممن يظن أن الحلاج قال : " أنا الحق " ; لكونه كان في هذا التوحيد . فقال : الفرق بين فرعون والحلاج : أن فرعون قال : ( أنا ربكم الأعلى ) [ سورة النازعات : 24 ] وهو يشير إلى نفسه . وأما الحلاج فكان فانيا [36] عن نفسه ، والحق نطق على لسانه . فقلت له : أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه كما ينطق الجني على لسان المصروع ؟ ! [ ص: 379 ] ( 1 وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات [37] 1 ) ، فقلب [38] الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق ؟ ! ثم الجني يدخل في جسد الإنسان ويشغل [39] جميع أعضائه ، ( 4 والإنسان المصروع لا يحس بما يقوله الجني ويفعله بأعضائه [40] 4 ) ، لا يكون الجني في قلبه فقط ، فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من الأعراض ، ليس شيئا موجودا قائما بنفسه ، ولهذا لا يكون الجني بقلبه الذي هو روحه .

                  وهؤلاء قد يدعون [41] أن ذات الحق قامت بقلبه فقط ، فهذا يستحيل في حق المخلوق [42] ، فكيف بالخالق جل جلاله ؟ ! .

                  وقد يحتج بعضهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده . فقولوا : ربنا ، ولك الحمد " [43] ; فإن الله قال على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - : " سمع الله لمن حمده فيقال لهم : النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد ما أردتم من الحلول [ ص: 380 ] والاتحاد ، ولكن أراد أن الله بلغكم هذا الكلام على لسان رسوله ، وأخبركم أنه يسمع [44] دعاء من حمده فاحمدوه أنتم ، وقولوا : ربنا ولك الحمد ; حتى يسمع الله لكم دعاءكم ; فإن الحمد قبل الدعاء سبب لاستجابة الدعاء .

                  وهذا أمر معروف ، يقول المرسل لرسوله : قل على لساني كذا وكذا ، ويقول الرسول لمرسله : قلت على لسانك كذا وكذا ، ويقول المرسل أيضا : قلت لكم على لسان رسولي [45] كذا وكذا .

                  وقد قال تعالى : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) [ سورة الشورى : 51 ] ، فالله تعالى إذا أرسل رسولا من الملائكة أو من البشر برسالة ، كان مكلما لعباده بواسطة رسوله ، بما أرسل به رسوله ، وكان مبينا لهم بذلك .

                  كما قال تعالى : ( قد نبأنا الله من أخباركم ) [ سورة التوبة : 94 ] أي : بواسطة رسوله . وقال : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) [ سورة القيامة : 18 ] ، وقال : ( نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق ) [ سورة القصص : 3 ] ، وقال : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين ) [ سورة يوسف : 3 ] .

                  فكانت تلك التلاوة والقراءة والقصص بواسطة جبريل ; فإنه سبحانه يكلم عباده بواسطة رسول يرسله ، فيوحي بإذنه ما يشاء ; ولهذا جاء بلفظ [ ص: 381 ] الجمع ، فإن ما فعله المطاع بجنده يقال فيه : نحن نفعل كذا ، والملائكة رسل الله فيما يخلقه ويأمر به ، فما خلقه وأمر به بواسطة رسله من الملائكة قال فيه : نحن فعلنا ، كما قال - تعالى - : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ) [ سورة القيامة : 18 ] .

                  وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : إن علينا أن نجمعه في قلبك ، ثم أن [46] نقرأه بلسانك ، فإذا قرأه جبريل فاستمع له حتى يفرغ [47] .

                  كما قال [48] في الآية الأخرى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) [ سورة طه : 114 ] أي : لا تعجل بتلاوة ما يقرؤه جبريل عليك من قبل أن يقضي جبريل تلاوته ، بل استمع له حتى يقضي [49] تلاوته ، ثم [ ص: 382 ] بعد هذا اقرأ ما أنزله [50] إليك ، وعلينا أن نجمع ذلك في قلبك ، وأن تقرأه بلسانك ، ثم أن تبينه [51] للناس بعد ذهاب جبريل عنك .

                  وقوله : " والذي يشار إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث [52] ، وإثبات القدم " .

                  فيقال : مرادهم بهذا نفي المحدث [53] ، أي : ليس هنا إلا القديم ، وهذا على وجهين . فإن أريد به نفي المحدث [54] بالكلية ، وأن العبد هو القديم ، فهذا شر من قول النصارى ، إلا أنه قريب إلى قول اليعقوبية من النصارى ; فإن اليعقوبية يقولون : إن اللاهوت والناسوت امتزجا واختلطا فصارا جوهرا واحدا ، وأقنوما واحدا ، وطبيعة واحدة ، ويقول بعضهم : إن اليدين اللتين سمرتا [55] هما اليدان اللتان خلق بهما آدم .

                  وأما النسطورية فيقولون بحلول اللاهوت في الناسوت ، والملكانية [56] يقولون : شخص واحد ، له أقنوم واحد ، بطبيعتين ومشيئتين [57] . ويشبهونه بالحديدة والنار ، والنسطورية يشبهونه بالماء في الظروف ، واليعقوبية يشبهونه باختلاط الماء واللبن ، والماء والخمر [58] .

                  [ ص: 383 ] فقول القائل : " إسقاط الحدوث " [59] إن أراد به أن المحدث عدم ; فهذا مكابرة ، وإن أراد به إسقاط المحدث من قلب العبد ، وأنه لم يبق في قلبه إلا القديم ; فهذا إن أريد به ذات القديم فهو قول النسطورية من النصارى ، وإن أريد به معرفته والإيمان به وتوحيده ، أو قيل : مثله ، أو المثل [60] العلمي ، أو نوره ، أو نحو ذلك ، فهذا المعنى صحيح ، فإن قلوب أهل التوحيد مملوءة بهذا ، لكن ليس في قلوبهم ذات الرب القديم وصفاته القائمة به .

                  وأما أهل الاتحاد العام فيقولون : ما في الوجود إلا الوجود القديم ، وهذا قول الجهمية .

                  وأبو إسماعيل لم يرد هذا ، فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية ، الذين يقولون : إن الله بذاته في كل مكان ، وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس .

                  ولهذا قال : " ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته " .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية