الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  والاتحاد والحلول الخاص وقع فيه كثير من العباد والصوفية وأهل الأحوال ; فإنه [1] يفجؤهم ما يعجزون عن معرفته ، وتضعف عقولهم عن تمييزه ، فيظنونه ذات الحق ، وكثير منهم يظن أنه رأى الله بعينه ، وفيهم من يحكي مخاطباته [2] له ، ومعاتباته [3] . وذاك كله إنما هو في قلوبهم من [ ص: 384 ] المثال العلمي الذي في قلوبهم بحسب إيمانهم به .

                  ومما يشبه المثال العلمي رؤية الرب تعالى [4] في المنام ، فإنه يرى في صور [5] مختلفة ، يراه كل عبد [6] على حسب إيمانه ، ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم إيمانا من غيره رآه في أحسن صورة ، وهي رؤية منام بالمدينة ، كما نطقت بذلك الأحاديث المأثورة عنه [7] ، وأما ليلة المعراج فليس في شيء من الأحاديث المعروفة أنه رآه ليلة المعراج ، لكن روي في ذلك حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ، رواه الخلال من طريق أبي عبيد ، وذكره القاضي أبو يعلى في " إبطال التأويل " [8] ، والذي نص عليه الإمام أحمد في الرؤية هو ما جاء عن النبي - صلى الله عليه [ ص: 385 ] وسلم - ، وما قاله أصحابه ، فتارة يقول : رآه بفؤاده متبعا لأبي ذر ; فإنه روى بإسناده عن أبي ذر - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه بفؤاده [9] .

                  وقد ثبت في صحيح مسلم : أن أبا ذر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : هل رأيت ربك ؟ فقال : " نور أنى أراه " [10] . ولم ينقل هذا السؤال عن غير أبي ذر . وأما ما يذكره بعض العامة من أن أبا بكر - رضي الله عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال [11] : " نعم رأيته " ، وأن عائشة سألته ، فقال : " لم أره " فهو كذب ، لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا يجيب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مسألة واحدة بالنفي والإثبات مطلقا ، فهو منزه عن ذلك [12] .

                  [ ص: 386 ] فلما كان أبو ذر أعلم من غيره اتبعه أحمد ، مع ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال : رآه بفؤاده مرتين [13] . وتارة يقول أحمد : رآه . فيطلق [14] اللفظ ولا يقيده بعين ولا قلب ( * اتباعا للحديث ، وتارة يستحسن قول من يقول : رآه . ولا يقول بعين ولا قلب * ) [15] ، ولم ينقل أحد من أصحاب أحمد الذين باشروه عنه أنه قال : رآه بعينه ، وقد ذكر ما نقلوه عن أحمد الخلال في كتاب " السنة " وغيره [16] .

                  وكذلك لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال : " رآه بعينه " ، بل الثابت عنه إما الإطلاق ، وإما التقييد بالفؤاد .

                  وقد ذكر طائفة من أصحاب أحمد ، كالقاضي أبي يعلى [17] ومن اتبعه عن أحمد ثلاث روايات في رؤيته تعالى : إحداها : أنه رآه بعينه ، واختاروا ذلك . وكذلك اختاره الأشعري وطائفة . ولم ينقل هؤلاء عن [ ص: 387 ] أحمد لفظا صريحا بذلك ، ولا عن ابن عباس ، ولكن المنقول الثابت عن أحمد من جنس النقول الثابتة عن ابن عباس : إما تقييد الرؤية بالقلب ، وإما إطلاقها ، وأما تقييدها بالعين فلم يثبت لا عن أحمد ولا عن ابن عباس .

                  وأما من سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ذكر الإمام أحمد اتفاق السلف على أنه لم يره أحد بعينه ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت " [18] ، وهذا لبسطه موضع آخر .

                  وإنما المقصود هنا أن كثيرا من السالكين يرد عليه من الأحوال ما يصطلمه [19] ، حتى يظن أنه هو الحق ، وأن الحق فيه ، أو أن الحق يتكلم على لسانه ، أو أنه يرى الحق ، أو نحو ذلك ، وإنما يكون الذي يشاهدونه ويخاطبونه هو الشيطان ، وفيهم من يرى عرشا عليه نور ، ويرى الملائكة [ ص: 388 ] حول العرش ، ويكون ذلك الشيطان ، وتلك الشياطين حوله ، وقد جرى هذا لغير واحد .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية