إبراهيم ، وأصلها محبة الله وحده ، فما من فطرة لم تفسد إلا وهي تجد فيها محبة الله تعالى ، لكن قد تفسد الفطرة إما لكبر وغرض فاسد فالله فطر عباده على الحنيفية ملة [1] كما في فرعون . وإما بأن يشرك معه غيره في المحبة .
كما قال تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) [ سورة البقرة : 165 ] .
وأما أهل التوحيد ، فإن في [ ص: 404 ] قلوبهم محبة الله ، لا يماثله فيها غيره . ولهذا كان الرب محمودا حمدا مطلقا على كل ما فعله ، وحمدا خاصا على إحسانه إلى الحامد ، فهذا حمد الشكر ، والأول حمده الذين يعبدون الله مخلصين له الدين [2] على كل ما فعله .
كما قال : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ) [ سورة الأنعام : 1 ] ، ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) الآية [ سورة فاطر : 1 ] .
والحمد ضد الذم . والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته ، والذم خبر بمساوئ المذموم مقرون ببغضه ; فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته ، ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه ، وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة .
آدم : [ الحمد لله رب العالمين ] وأول ما نطق به [3] ، وأول ما سمع من ربه : يرحمك ربك ، ، وآخر دعوى أهل الجنة : أن الحمد لله رب العالمين ، وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب لواء الحمد ، ونبينا آدم فمن دونه تحت لوائه ، وهو صاحب المقام المحمود ، الذي يغبطه به الأولون والآخرون .
فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود [4] ، [ ولا يكون حمد إلا بحب المحمود ] [5] ، وهو سبحانه المعبود المحمود .
[ ص: 405 ] وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده ، وآخره عبادته ، أوله : ( الحمد لله رب العالمين ) ، وآخره : ( إياك نعبد ) . كما ثبت في حديث القسمة : " يقول الله - تبارك وتعالى - : الحمد لله رب العالمين ) ; فيقول الله : حمدني عبدي ، يقول العبد : ( الرحمن الرحيم ) ، فيقول الله تعالى : أثنى علي عبدي ، يقول العبد : ( مالك يوم الدين ) فيقول الله - تبارك وتعالى - : مجدني عبدي ، يقول العبد : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، فيقول الله تعالى : هذه الآية بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . يقول العبد : ( اهدنا الصراط المستقيم ) إلى آخر السورة . يقول الله تعالى : هؤلاء [6] لعبدي ، ولعبدي ما سأل " رواه قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل . يقول العبد : ( [ في صحيحه ] مسلم [7] . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " أفضل ما قلت : أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير [8] فجمع بين التوحيد [ ص: 406 ] والتحميد . كما قال تعالى : ( فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ) [ سورة غافر 65 ] .
وكان يقول : إذا قلت : لا إله إلا الله ، فقل : الحمد لله رب العالمين ، يتأول هذه الآية ابن عباس [9] .
وفي سنن وغيره ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ابن ماجه : لا إله إلا الله ، أفضل الذكر : الحمد لله وأفضل الدعاء " [10] .
[ ص: 407 ] وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم [11] .
وقال أيضا : " كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء " [12] .
[ ص: 408 ] [13] من الحمد لله ومن توحيده ; ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين ، وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله ، وآخره الشهادتان ، ولا يكون الثناء إلا على محبوب ، ولا التأله إلا لمحبوب ، وقد بسطنا فلا بد في الخطب [14] الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة .
وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه ، فهو [15] سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه ، كما قال أفضل الخلق : " " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك [16] ، ولا ثناء إلا بحب ، فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه ، وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه ، فهو يحب المقسطين والمحسنين ، والصابرين والمؤمنين ، ويحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ويفرح بتوبة التائبين ، كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه [17] ; فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله ; فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله ، فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته ؟ ! .
إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه [18] ، وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبها .
[ ص: 409 ] فما خلق شيئا إلا لحكمة ، وهو سبحانه قد قال : ( أحسن كل شيء خلقه ) [ سورة السجدة : 7 ] ، وقال : ( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) [ سورة النمل : 88 ] .
; ولهذا كانت كلها حسنى ، والحسنى بخلاف السوأى ، فكلها حسنة ، والحسن محبوب ممدوح . وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به
فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه ، وذلك أمر ممدوح ، ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده ; لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله ، فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع ، كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة ، ويمتنع وجود المولود - [ مع كونه مولودا ] [19] - بلا ولادة .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح ، حديث الاستفتاح : " [20] بيديك ، والشر ليس إليك " والخير كله [21] وقد قيل : في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها ، وقد قيل : [ ص: 410 ] لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق .
[ قط ] والشر المخلوق لا يضاف إلى الله مجردا عن الخير [22] ، وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة : إما مع إضافته إلى المخلوق ، كقوله : ( من شر ما خلق ) [ سورة الفلق : 2 ] ، وإما مع حذف الفاعل ، كقوله تعالى : ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) [ سورة الجن : 10 ] .
ومنه في الفاتحة : ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) [ سورة الفاتحة : 7 ] ، فذكر الإنعام مضافا إليه ، وذكر الغضب محذوفا فاعله ، وذكر الضلال مضافا إلى العبد .
وكذلك قوله : ( وإذا مرضت فهو يشفين ) [ سورة الشعراء : 80 ] .
وإما أن يدخل في العموم كقوله : ( خالق كل شيء ) [ سورة الأنعام : 102 ] ; ولهذا إذا ذكر باسمه الخاص قرن بالخير ، كقوله في أسمائه الحسنى : الضار ، النافع ، المعطي ، المانع ، [ الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، فجمع [23] بين الاسمين لما فيه من العموم [24] والشمول الدال على وحدانيته ، وأنه وحده يفعل جميع هذه الأشياء ; ولهذا لا يدعى بأحد الاسمين : كالضار ، والنافع ، والخافض ، والرافع ، بل يذكران جميعا ] [25] . ولهذا كان كل نعمة منه فضلا ، وكل نقمة منه عدلا .
[ ص: 411 ] وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه ؟ والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع [26] ، فالإحسان بيده اليمنى ، والعدل بيده الأخرى ، وكلتا يديه يمين مباركة .
كما [ ثبت ] في الصحيح [27] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذي يعدلون في أهليهم وما ولوا [28] ، ولبسط هذا موضع آخر .
والمقصود هنا أنه سبحانه إذا خلق ما يبغضه ويكرهه ، لحكمة يحبها ويرضاها ، فهو مريد لكل ما خلقه ، وإن كان بعض مخلوقاته إنما خلقه لغيره ، وهو يبغضه ولا يحبه .
وهذا هو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء ، وأكثر متكلمي أهل السنة ، كالحنفية الفرق بين المحبة والمشيئة والكرامية [29] ، [ ص: 412 ] والمتقدمين من الحنبلية والمالكية والشافعية ، كما ذكر ذلك [ أبو بكر ] [30] : عبد العزيز في كتاب " المقنع " ، وهو أحد قولي ، وعليه اعتمد الأشعري ، ورجحه على قول من قال : لا يحب الفساد للمؤمن ، أو لا يحبه دينا . أبو الفرج بن الجوزي
وذكر أبو المعالي أن هذا قول السلف ، وأن أول من جعلهما [31] سواء من أهل الإثبات هو أبو الحسن .
والذين قالوا : هذا من متأخري المالكية والشافعية والحنبلية ، كأبي المعالي ، وغيرهما ، هم في ذلك تبع والقاضي أبي يعلى ، وبهذا الفرق يظهر أن للأشعري . [ فأما المأمور به ] الإرادة نوعان : إرادة أن يخلق ، وإرادة لما أمر به [32] فهو مراد إرادة شرعية دينية ، [ متضمنة ] [33] أنه يحب ما أمر به ويرضاه .
وهذا معنى قولنا : يريد [34] من عبده ، فهو يريده له كما يريد الأمر الناصح للمأمور المنصوح ، يقول : هذا خير لك ، وأنفع [ لك ] [35] ، وهو إذا فعله أحبه الله ورضيه ، والمخلوقات مرادة إرادة خلقية كونية ، وهذه الإرادة متضمنة لما وقع دون ما لم يقع ، وقد يكون الشيء مرادا له غير محبوب ، بل أراده لإفضائه إلى وجود ما هو محبوب له ، أو لكونه شرطا في وجود ما هو محبوب له .
[ ص: 413 ] فهذه الإرادة الخلقية هي المذكورة في قوله تعالى : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا ) [ سورة الأنعام : 125 ] .
وفي قوله : ( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم ) [ سورة هود : 34 ] .
وفي قول المسلمين : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .
وفي قوله : ( ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ) [ سورة السجدة : 13 ] ، وأمثال ذلك .
والإرادة الأمرية هي المذكورة في قوله : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ سورة البقرة : 185 ] .
وفي قوله : ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ) [ سورة النساء : 27 - 28 ] ، وفي قوله : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ) [ سورة المائدة : 6 ] ، وأمثال ذلك .
وإذا قيل : الأمر هل يستلزم الإرادة ، أم يأمر بما لا يريد ؟
قيل : هو لا يستلزم الإرادة الأولى ، وهي [36] : إرادة الخلق . فليس كل ما أمر الله به أراد أن يخلقه ، وأن يجعل العبد المأمور فاعلا له .
والقدرية تنفي أن يريد ذلك ; لأنه عندهم لا يجعل أحدا فاعلا ، ولا [ ص: 414 ] يخلق فعل أحد .
وأما أهل السنة فعندهم هو الذي جعل الأبرار أبرارا ، والمسلمين مسلمين ، وعندهم من أمره وجعله فاعلا للمأمور صار فاعلا له ، وإن لم يجعله فاعلا [ له ] [37] لم يصر فاعلا له [38] فأهل الإيمان والطاعة أراد منهم إيمانهم وطاعتهم أمرا وخلقا ، فأمرهم بذلك وأعانهم عليه ، وجعلهم فاعلين لذلك [39] ، ولولا إعانته لهم على طاعته لما أطاعوه . وأهل الكفر والمعصية أمرهم ولم يجعلهم مطيعين ، فلم يرد أن يخلق طاعتهم ، لكنه أمرهم بها وأرادها منهم إرادة شرعية دينية ; لكونها منفعة لهم ومصلحة إذا فعلوها ، ولم يرد هو أن يخلقها لما في ذلك من الحكمة ، وإذا كان يحبها بتقدير وجودها ، فقد يكون ذلك مستلزما لأمر يكرهه ، أو لفوات ما هو أحب إليه منه ، ودفعه أحب إليه من حصول ذلك المحبوب ، فيكون ترك هذا المحبوب لدفع المكروه أحب إليه من وجوده ، كما أن وجود المكروه المستلزم لوجود المحبوب يجعله مرادا لأجله ، إذا كان محبته له أعظم من محبته لعدم المكروه الذي هو الوسيلة [40] .
وليس كل من نصحته بقولك عليك أن تعينه على الفعل الذي أمرته به . فالأنبياء والصالحون دائما ينصحون الناس ويأمرونهم ، ويدلونهم على ما إذا فعلوه كان صلاحا لهم ، ولم يعاونونهم على أفعالهم ، وقد يكونون قادرين ، لكن مقتضى حكمتهم أن لا يفعلوا ذلك لأسباب متعددة .
[ ص: 415 ] والرب تعالى على كل شيء قدير ، لكن ما من شيء إلا وله ضد ينافيه ، وله لازم لا بد منه ; فيمتنع وجود الضدين معا ، أو وجود الملزوم بدون اللازم ، كل من الضدين مقدور لله ، والله قادر على أن يخلقه ، لكن بشرط عدم الآخر ، فأما وجود الضدين معا فممتنع [41] لذاته ، فلا يلزم من كونه قادرا على كل منهما وجود أحدهما مع الآخر .
والعباد قد لا يعلمون التنافي أو التلازم ، فلا يكونون عالمين بالامتناع ; فيظنونه ممكن الوجود ، مع حصول المحبوب المطلوب [42] للرب ، وفرق بين العلم بالإمكان [ وعدم العلم بالامتناع ، وإنما عندهم عدم العلم بالامتناع ، لا العلم بالإمكان ] [43] والعدم لا فاعل له ، فأتوا من عدم علمهم ، وهو الجهل الذي هو أصل الكفر [44] .
، فإذا قال القائل : لم لم يجعل وهو سبحانه إذا اقتضت حكمته خلق شيء ، فلا بد من خلق لوازمه ونفي أضداده [45] معه الضد المنافي ؟ أو لم وجد اللازم ؟ كان لعدم علمه بالحقائق .
وهذا مثل أن يقول القائل : هلا خلق زيدا قبل أبيه ؟ .
فيقال له : يمتنع أن يكون ابنه ويخلق قبله ، أو يخلق حتى يخلق أبوه ، والناس تظهر لهم الحكمة في كثير من تفاصيل الأمور التي يتدبرونها ، كما تظهر لهم الحكمة في ملوحة ماء العين ، وعذوبة ماء الفم ، ومرارة [ ص: 416 ] ماء الأذن ، وملوحة ماء البحر . وذلك يدلهم على الحكمة فيما لم يعلموا حكمته ، فإن من رأى إنسانا بارعا في النحو أو الطب أو الحساب أو الفقه ، وعلم أنه أعلم منه بذلك ، إذا أشكل عليه بعض كلامه فلم يفهمه ، سلم ذلك إليه .
فرب العالمين الذي بهرت العقول حكمته ورحمته ، الذي أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عددا ، وهو أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين ، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها ، كيف لا يجب على العبد أن يسلم ما جهله [46] من حكمته إلى ما علمه منها ؟ ! .
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ، والمقصود هنا التنبيه على المختلفين في الكتاب ، الذين يرد كل منهم قول الآخر ، وفي كلام كل منهم حق وباطل ، وقد ذكرنا مثالين : مثالا في الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ، ومثالا في الشرع والقدر .