وصار المختلفون بعدهم على قولين : قوم [1] يقولون : هو مخلوق خلقه [ الله ] في غيره [2] ، والله لا يقوم به كلام ، . ويقولون : الكلام صفة فعل لا صفة ذات ، ومرادهم بالفعل ما كان منفصلا عن الفاعل غير قائم به ، وهذا لا يعقل أصلا ، ولا يعرف متكلم لا يقوم به كلامه
[ ص: 417 ] وقوم يقولون : بل هو قديم لم يزل قائما بالذات أزلا وأبدا ، لا يتكلم لا بقدرته ولا مشيئته ، ولم يزل نداؤه لموسى أزليا ، وكذلك قوله : يا إبراهيم ، يا موسى ، يا عيسى .
ثم صار هؤلاء حزبين : حزبا عرفوا أن ما كان قديما لم يزل يمتنع أن يكون حروفا ، أو حروفا وأصواتا ; فإن الحروف متعاقبة : الباء قبل السين ، والصوت لا يبقى ، بل يكون شيئا بعد شيء كالحركة ; فيمتنع أن يكون الصوت الذي سمعه موسى قديما لم يزل ولا يزال ; فقالوا : كلامه معنى واحد قائم بذاته : هو الأمر بكل مأمور ، والنهي عن كل منهي عنه ، والخبر بكل ما أخبر به ، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرانية [3] كان توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية [4] كان إنجيلا ، وأن ذلك المعنى هو أمر بكل ما أمر به ، وهو نهي عن كل ما نهى عنه ، وهو خبر بكل ما أخبر به . وكونه أمرا ، ونهيا ، وخبرا صفات له إضافية ، مثل قولنا : زيد أب وعم وخال ، ليست أنواعا له ، ولا ينقسم الكلام إلى هذا وهذا .
قالوا : والله لم يتكلم بالقرآن العربي ، ولا بالتوراة العبرانية [5] ، ولا بالإنجيل السريانية ، ولا سمع موسى ولا غيره منه بأذنه صوتا ، ولكن القرآن العربي خلقه الله في غيره ، أو أحدثه جبريل أو محمد ، ليعبر به عما يراد إفهامه من ذلك المعنى [6] الواحد .
[ ص: 418 ] فقال لهم جمهور الناس : هذا القول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول ، فإنا نعلم بالاضطرار أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين ، ولا معنى : قل هو الله أحد ، هو معنى : تبت يدا أبي لهب ، وقد عرب الناس التوراة فوجدوا فيها معاني ليست هي المعاني التي في القرآن ، ونحن نعلم قطعا أن المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق ونحو ذلك ، لم ينزلها الله على موسى بن عمران ، كما لم ينزل على محمد تحريم السبت ، ولا الأمر بقتال عباد العجل ، فكيف يكون كل كلام الله معنى واحدا [7] ؟ ! .
ونحن نعلم بالاضطرار أن ، والإنشاء منه الطلب ، الكلام معانيه وحروفه تنقسم إلى خبر وإنشاء ، وحقيقة الطلب غير حقيقة الخبر ، فكيف لا تكون هذه أقسام الكلام وأنواعه ، بل هو موصوف بها كلها ؟ ! . والطلب ينقسم إلى أمر ونهي
( * وأيضا فالله تعالى يخبر أنه [ لما ] [8] أتى موسى الشجرة ناداه ، فناداه في ذلك الوقت ، لم يناده في الأزل ، وكذلك قال : ( [9] اسجدوا لآدم ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة * ) ) ) . [ سورة الأعراف : 11 ] .
وقال : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) [ سورة آل عمران : 59 ] .
وقال : ( وإذ قال ربك للملائكة ) [ سورة البقرة : 30 ] إلى مواضع كثيرة من [ ص: 419 ] القرآن تبين أنه تكلم بالكلام المذكور في ذلك الوقت ، فكيف يكون أزليا أبديا ، ما زال ولا يزال ؟ ! وكيف يكون لم يزل ولا يزال ؟ ! قائلا : يانوح اهبط بسلام منا ) [ سورة هود : 48 ] ، ( ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ) [ سورة آل عمران : 55 ] ، يا موسى : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا ) [ سورة طه : 14 ] ، ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا ) [ سورة المزمل : آية 1 - 2 ] .
وقال هؤلاء : هذا القرآن العربي ليس هو كلام الله . وقال هؤلاء : كلام الله لا يتعدد ولا يتبعض .
فقال لهم الناس : موسى لما كلمه الله أفهمه كلامه كله أو بعضه ؟ إن قلتم : كله ; فقد صار موسى يعلم علم الله ، وإن قلتم : بعضه ; فقد تبعض ، وهو عندكم واحد لا يتبعض .
وكذلك هذا القرآن العربي هو عندكم ليس كلام الله ، ولكنه عبارة عنه ، أفهو عبارة عن كله ؟ فهذا ممتنع أم عن بعضه ؟ فهذا ممتنع أيضا ، إلى كلام آخر يطول ذكره هنا .
وقال الحزب الثاني لما رأوا فساد هذا القول : ، بل نقول : إن القرآن قديم ، وإنه حروف ، أو حروف وأصوات ، وإن هذا القرآن العربي كلام الله ، كما دل على ذلك القرآن والسنة وإجماع المسلمين .
وفي القرآن مواضع كثيرة تبين أن هذا المنزل هو القرآن ، وهو كلام الله ، وأنه عربي .
وأخذوا يشنعون على أولئك إنكارهم [10] أن يكون هذا كلام الله ; فإن [ ص: 420 ] أولئك أثبتوا قرآنين : قرآنا قديما ، وقرآنا مخلوقا . فأخذ هؤلاء يشنعون على أولئك بإثبات قرآنين .
فقال لهم أولئك : فأنتم إذا جعلتم القرآن العربي - وهو قديم - كلام الله ، لزم أن يكون مخلوقا ، وكنتم موافقين للمعتزلة ; فإن قولكم : إن القرآن العربي قديم . ممتنع في صرائح العقول ، ولم يقل ذلك أحد من السلف ، ونحن وجميع الطوائف ننكر عليكم هذا القول ، ونقول : إنكم ابتدعتموه وخالفتم به المعقول والمنقول ، وإلا فكيف تكون السين المعينة المسبوقة بالباء المعينة قديمة أزلية [11] ، وتكون الحروف المتعاقبة قديمة ، والصوت [12] الذي كان في هذا الوقت قديما ؟ ! .
ولم يقل هذا أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، وإن كان بعض المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي يقولونه ، ويقوله وأحمد ابن سالم وأصحابه [13] ، وطائفة من أهل الكلام والحديث ; فليس في هؤلاء أحد من السلف ، وإن كان ذكر في " نهاية الإقدام " أن هذا قول السلف والحنابلة ، فليس هو قول السلف ، ولا قول الشهرستاني ، ولا أصحابه القدماء ، ولا جمهورهم . أحمد بن حنبل
فصار كثير من هؤلاء الموافقين للسالمية ، وأولئك الموافقين للكلابية ، بينهم منازعات ومخاصمات ، بل وفتن ، وأصل ذلك قولهم جميعا : إن [ ص: 421 ] القرآن قديم . وهي أيضا بدعة لم يقلها أحد من السلف ، وإنما [14] ، وكان قولهم أولا : إنه كلام الله كافيا السلف كانوا يقولون : القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود [15] عندهم . فإن ما كان كلاما لمتكلم لا يجوز أن يكون منفصلا عنه ، فإن هذا مخالف للمعقول والمنقول في الكلام ، وفي جميع الصفات يمتنع أن يوصف الموصوف بصفة لا تكون قط قائمة به ، بل لا تكون إلا بائنة عنه .
الجهمية والمعتزلة من أن كلامه وإرادته ، ومحبته وكراهته ، ورضاه وغضبه ، وغير ذلك - كل ذلك مخلوقات له منفصلة عنه ; هو مما أنكره السلف عليهم وجمهور الخلف ، بل قالوا : إن هذا من الكفر الذي يتضمن تكذيب الرسول وما يزعمه [16] ، وجحود ما يستحقه الله من صفاته .
وكلام السلف في رد هذا القول ، بل [17] وإطلاق الكفر عليه ، كثير منتشر . وكذلك لم يقل السلف : [ إن ] [18] غضبه على فرعون وقومه قديم ، ولا أن فرحه بتوبة التائب قديم .
وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الجزاء لعباده على الطاعة والمعصية ، من رضاه وغضبه ، لم يقل أحد منهم : إنه قديم ; فإن الجزاء لا يكون قبل العمل .
[ ص: 422 ] والقرآن صريح بأن أعمالهم كانت سببا لذلك كقوله : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) [ سورة الزخرف : 55 ] ، وقوله : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) [ سورة محمد : 28 ] ، وقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) [ سورة آل عمران : 31 ] ، وأمثال ذلك .
بل قد ثبت في الصحيحين [19] من حديث الشفاعة أن كلا من الرسل يقول : " " إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله [20] .
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال : [21] : " أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : " فإنه قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي ، فمن قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي ، كافر بالكوكب ، ومن قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فهو كافر بي ، مؤمن بالكوكب " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح في إثر سماء كانت من الليل ، فلما انفتل من صلاته قال [22] .
[ ص: 423 ] وفي الصحيح [23] عنه - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى : " ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " [24] .
وفي القرآن والحديث من هذا ما يطول ذكره . وقد بسطنا هذا في كتاب " درء [25] تعارض العقل والنقل " وغيره .
وقد أخبر الله تعالى في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع . والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة وسائر الناس . والله أخبر : أنه نادى موسى حين جاء الشجرة ، فقال : ( فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ) [ سورة النمل : 8 ] ، ( فلما أتاها نودي ياموسى إني أنا ربك ) [ سورة طه : 11 - 12 ] ، ( فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ) [ سورة القصص : 30 ] ، ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ) [ سورة الشعراء : 10 ] ، ( وناديناه من جانب الطور الأيمن ) [ سورة مريم : 52 ] ( هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى ) [ سورة النازعات : 15 - 16 ] ، ( وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ) [ سورة القصص : 46 ] ، ( ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ) [ سورة القصص : 62 - 74 ] [ ص: 424 ] [ في موضعين ] [26] ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) [ سورة القصص : 65 ] ، ( وناداهما ربهما ) [ سورة الأعراف : 22 ] .
فمن قال : إنه لم يزل مناديا من الأزل إلى الأبد ، فقد خالف القرآن والعقل ، ومن قال : إنه بنفسه [27] لم يناد ، ولكن خلق نداء في شجرة أو غيرها ; لزم أن تكون الشجرة هي القائلة : إني أنا الله . وليس هذا كقول الناس : نادى الأمير ، إذ أمر مناديا ; فإن المنادي عن الأمير يقول : أمر الأمير بكذا ، ورسم السلطان بكذا ، لا يقول : أنا أمرتكم . ولو قال ذلك لأهانه الناس .
والمنادي قال لموسى : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) [ سورة طه : 14 ] ، ( إني أنا الله رب العالمين ) [ سورة القصص : 30 ] ، وهذا لا يجوز أن يقوله ملك إلا إذا بلغه عن الله ، كما نقرأ نحن القرآن ، والملك إذا أمره الله بالنداء قال كما [ ثبت ] في الصحيح [28] عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " جبريل : إني أحب فلانا فأحبه ، ثم ينادي جبريل في السماء : إن الله يحب فلانا فأحبوه " إذا أحب الله عبدا نادى [29] فجبريل إذا [ ص: 425 ] نادى في السماء قال : إن الله يحب فلانا فأحبوه ، والله إذا نادى جبريل يقول : يا جبريل إني أحب فلانا .
ولهذا لما نادت الملائكة زكريا قال تعالى : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ) [ سورة آل عمران : 39 ] ، وقال : ( وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) [ سورة آل عمران : 42 ] .
ولا يجوز قط لمخلوق أن يقول : إني أنا الله رب العالمين ، ولا يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ والله تعالى إذا خلق صفة في محل كان المحل متصفا بها ، فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو حياة أو حركة أو لونا أو سمعا أو بصرا كان ذلك المحل هو العالم به ، القادر ، المتحرك ، الحي ، المتلون ، السميع ، البصير ، فإن ، بل كل موصوف لا يوصف إلا بما يقوم به ، لا بما يقوم بغيره ولم يقم به . الرب لا يتصف بما يخلقه في مخلوقاته ، وإنما يتصف بصفاته القائمة به
فلو كان النداء مخلوقا في الشجرة ; لكانت هي القائلة : إني أنا الله . وإذا كان ما خلقه الرب [30] في غيره كلاما له ، وليس له كلام إلا ما خلقه ، لزم أن يكون إنطاقه لأعضاء الإنسان يوم القيامة كلاما له ، وتسبيح الحصى كلاما له ، وتسليم الحجر على الرسول كلاما له ، بل يلزم أن يكون كل كلام في الوجود كلامه ; لأنه قد ثبت أنه خالق كل شيء .
[ ص: 426 ] وهكذا طرد الحلولية الاتحادية كابن عربي ، فإنه قال : قول
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
[31]ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي [32] : من قال : إن قوله : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) [ سورة طه : 14 ] مخلوق ، فقوله من جنس قول فرعون الذي قال : ( أنا ربكم الأعلى ) [ سورة النازعات : 42 ] ، فإن هذا مخلوق وهذا مخلوق ، يقول : إن هذا يوجب أن يكون ما خلق فيه هذا القول هو القائل له ، كما كان فرعون هو القائل لما قام به .
قالوا : وقولهم : إن الكلام صفة فعل ، فيه تلبيس .
فيقال لهم : أتريدون به أنه مفعول منفصل عن المتكلم ؟ أم تريدون به أنه قائم به ؟ [33] .
فإن قلتم بالأول فهو باطل ، فلا يعرف قط متكلم بكلام ، وكلامه مستلزم كونه منفصلا عنه ، والفعل أيضا لا بد أن لا يكون قائما بالفاعل ، كما قال السلف والأكثرون ، وإنما المفعول هو الذي يكون بائنا عنه .
[ ص: 427 ] والمخلوق المنفصل عن الرب ليس هو خلقه إياه ، بل خلقه للسماوات [34] والأرض ليس هو نفس السماوات والأرض ، والذين قالوا : الخلق هو المخلوق ، فروا من أمور ظنوها محذورة ، وكان ما فروا إليه شرا مما فروا منه ; فإنهم قالوا : لو كان الخلق غير المخلوق لكان إما قديما وإما حادثا ، فإن كان قديما لزم قدم المخلوق ، وإن كان حادثا فلا بد له من خلق آخر ، فيلزم التسلسل .
فقال لهم الناس : بل هذا منقوض على أصلكم [35] ; فإنكم تقولون : إنه يريد بإرادة قديمة ، والمرادات كلها حادثة . فإن كان هذا جائزا فلماذا لا يجوز أن يكون الخلق قديما والمخلوق حادثا ؟ وإن كان هذا غير جائز ، بل الإرادة تقارن المراد ، لزم جواز قيام الحوادث به . وحينئذ فيجوز أن يقوم به خلق مقارن للمخلوق . فلزم فساد قولكم على التقديرين .
وكذلك إذا قيل : إن الخلق حادث . فلم قلتم : إنه محتاج إلى خلق آخر . فإنكم تقولون : المخلوقات كلها حادثة ، ولا تحتاج إلى خلق حادث . فلم لا يجوز أن تكون مخلوقة بخلق حادث ؟ وهو لا يحتاج إلى خلق آخر .
ومعلوم أن حدوثها بخلق حادث أقرب إلى العقول من حدوثها كلها بلا خلق أصلا ; فإن كان كل حادث يفتقر إلى خلق بطل قولكم ، وإن [ ص: 428 ] كان فيها ما لا يفتقر إلى خلق ، جاز أن يكون الخلق نفسه لا يفتقر إلى خلق آخر .
وهذه المواضع مبسوطة في غير هذا الموضع ، والمقصود التمثيل بكلام المختلفين في الكتاب ، الذين في قول كل واحد منهم حق وباطل ، وأن الصواب ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان .
، فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والاستدلال بأدلته ، والعمل بموجبها ; فلا بد من علم بما جاء به والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي [36] وعمل به ، لا يكفي أحدهما .
وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية ; فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه ، والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها ، كما ضرب الله في القرآن من كل مثل ، وهذا هو . الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته
وأما الطريقان المبتدعان : فأحدهما : طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي ; فإن هذا فيه باطل كثير ، وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال ، فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل ، وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة .
والثاني : طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية ، وهؤلاء [ ص: 429 ] منحرفون إلى النصرانية الباطلة . فإن هؤلاء يقولون : إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه ، فاضت عليه العلوم بلا تعلم ، وكثير من هؤلاء تكون عبادته [37] مبتدعة ، بل مخالفة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيبقون [38] في فساد من جهة العمل ، وفساد من نقص العلم ، حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول ، وكثير ما يقع من [39] هؤلاء وهؤلاء ، وتقدح كل طائفة في الأخرى ، وينتحل كل منهم اتباع الرسول .
والرسول ليس ما جاء به موافقا لما قال هؤلاء ولا هؤلاء : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) [ سورة آل عمران : 67 ] ، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي ، ولا على طريقة أهل البدع من أهل العبادة والتصوف ، بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة .