الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  قال الرافضي [1] " وقد ذكر غيره منها [2] أشياء كثيرة ، ونحن [3] نذكر منها شيئا يسيرا . منها ما رووه [4] عن أبي بكر أنه قال على المنبر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتصم [5] بالوحي ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني ، وإن زغت فقوموني ، وكيف يجوز [6] إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه ، مع أن الرعية تحتاج إليه ؟ " .

                  [ ص: 462 ] والجواب : أن يقال : هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق - رضي الله عنه - وأدلها على أنه لم يكن [ يريد علوا في الأرض ولا فسادا ، فلم يكن ] [7] طالب رياسة ، ولا كان ظالما ، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم : إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها ، وإن زغت عنها فقوموني ، كما قال أيضا : [ أيها الناس ] [8] أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .

                  والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني [9] آدم ، فإنه ما من أحد إلا [ وقد ] [10] وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن .

                  والشيطان يجري من ابن آدم [11] مجرى الدم ، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن " قيل : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير " [12] .

                  وفي الصحيح عنه قال : لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع [ ص: 463 ] صفية ليلا ، قال : " على رسلكما ، إنها صفية [13] [ بنت حيي ] [14] " ثم قال : " إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا ، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " [15] .

                  ومقصود الصديق بذلك : إني لست معصوما كالرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا حق .

                  وقول القائل : كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية ؟ كلام جاهل بحقيقة الإمامة ، فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته [16] حتى يستغني عنهم ، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله . وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا ، فلا بد له من إعانتهم ، ولا بد لهم من إعانته ، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق : إن سلك بهم الطريق اتبعوه ، وإن أخطأ عن الطريق [17] نبهوه وأرشدوه ، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه ، لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم .

                  [ ص: 464 ] وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته ، وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ .

                  وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه ، وإن غلط قوموه .

                  والناس بعد الرسول لا يتعلمون الدين من الإمام [18] ، بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة .

                  ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة ، بل قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) الآية [ سورة النساء : 59 ] ، ( 2 فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول 2 ) [19] لا إلى الأئمة وولاة الأمور ، وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول .

                  ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الطاعة في المعروف " [20] ، وقال : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " [21] ، وقال : " من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه " [22] .

                  [ ص: 465 ] وقول القائل : كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه ، مع أن الرعية تحتاج إليه ؟

                  وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الآخر ، حتى الشركاء في التجارات والصناعات ، وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة ، فإن المأمومين يحتاجون إليه ، وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور ، وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه ، ولو زاغ في الصلاة [23] فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها ، ونظائره متعددة .

                  ثم يقال : استعانة علي برعيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر ، وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له ، فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه ، كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك .

                  وكانوا إذا أمرهم أطاعوه . وعلي - رضي الله عنه - لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه [24] اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ، ثم رأى أن يبعن ، فقال له قاضيه عبيدة السلماني : رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة .

                  وكان يقول : اقضوا كما كنتم تقضون ; فإني أكره الخلاف ، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي .

                  وكانت رعيته كثيرة المعصية له ، وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي [ ص: 466 ] يخالفهم فيه ، ثم يتبين له أن الصواب كان معهم ، كما أشار عليه الحسن بأمور ، مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة ، وأن لا يخرج إلى الكوفة ، وأن لا يقاتل بصفين ، وأشار عليه أن لا يعزل معاوية ، وغير ذلك من الأمور .

                  وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي - رضي الله عنهم - ، فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية ، كانوا هم ورعيتهم أفضل . وإن كان لكمال المتولي وحده ، فهو أبلغ في فضلهم ، وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي ، كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر وعثمان .

                  ورعيته هم الذين قاتلوا معه ، وأقروا بإمامته . ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم . فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي ، لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه .

                  وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية [25] ما لم تنتظم لعلي ، فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي ، ورعية معاوية شيعة عثمان ، وفيهم النواصب المبغضون لعلي ، فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي ، فيلزم على كل تقدير : إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي ، وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض .

                  وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة ; فإنهم يدعون أن عليا أكمل [ ص: 467 ] من الثلاثة ، وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة ، فضلا عن أصحاب معاوية .

                  والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي ، فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة - على رأيهم - أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة ؟ بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم ؟

                  ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم ، إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة . فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين .

                  ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي ، فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى ، فعلم أنهم شر وأنقص [26] من غيرهم .

                  وهم يقولون : المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم . فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة ، واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة ، علم أن ما ذكروه [27] من إثبات العصمة باطل .

                  وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة ، وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر [28] من غيره .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية