( فصل ) [1] 
قال الرافضي [2]  : " وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة ، فلم [3] يعرف حكم الكلالة ، وقال : أقول فيها برأيي ، فإن يك [4] صوابا فمن الله ، وإن يك [5] خطأ فمني ومن الشيطان ، وقضى في الجد بسبعين قضية ، وهو يدل على قصوره في العلم "   . 
والجواب : أن هذا من أعظم البهتان . كيف [6] يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ، ولم يكن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من يقضي ويفتي إلا هو ؟ ! ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مشاورة لأحد من أصحابه [7] منه له  ولعمر  ، ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منه ثم  عمر   . 
 [ ص: 497 ] وقد ذكر غير واحد ، مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني  وغيره ، إجماع أهل العلم على أن  الصديق  أعلم الأمة   . وهذا بين ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم ، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة ، كما بين لهم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتثبيتهم على الإيمان ، وقراءته عليهم الآية [8] ، ثم بين لهم موضع دفنه ، وبين لهم قتال مانعي الزكاة [ لما استراب فيه  عمر   ] [9] ، وبين لهم أن الخلافة في قريش  في سقيفة بني ساعدة  ، لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش   . 
وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أول حجة حجت من مدينة النبي   - صلى الله عليه وسلم - ، وعلم المناسك أدق ما [10] في العبادات ، ولولا سعة علمه بها لم يستعمله ، وكذلك الصلاة استخلفه فيها ، ولولا علمه بها لم يستخلفه ، ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة . 
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذه  أنس  من  أبي بكر   . وهو أصح ما روي فيها ، وعليه اعتمد الفقهاء . 
وفي الجملة لا يعرف  لأبي بكر  مسألة من الشريعة غلط فيها  ، وقد عرف لغيره مسائل كثيرة ، كما بسط في موضعه . 
وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل : مثل الجد والإخوة ، ومثل  [ ص: 498 ] العمرتين ، ومثل العول [11] ، وغير ذلك من مسائل ( * الفرائض وتنازعوا في مسألة [12]  . الحرام ، والطلاق الثلاث بكلمة ، والخلية [13]  . ، والبرية [14] ، والبتة [15] ، وغير ذلك من مسائل الطلاق . 
وكذلك تنازعوا في مسائل * ) [16]  . صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم . وكان تنازعهم في خلافة  عمر  نزاع اجتهاد محض : كل منهم يقر صاحبه على اجتهاده ، كتنازع [17]  . الفقهاء أهل العلم والدين . 
وأما في خلافة  عثمان  فقوي النزاع في بعض الأمور ، حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض ، ولكن لم يقاتل بعضهم بعضا باليد [18]  . ولا بسيف ولا غيره . 
وأما في خلافة  علي  فتغلظ النزاع ، حتى تقاتلوا بالسيوف . 
 [ ص: 499 ] وأما في خلافة  أبي بكر  فلم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين ; وذلك لكمال علم  الصديق  ، وعدله ، ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع ، فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر  الصديق  من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها [19]  . النزاع ، وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها  الصديق  ابتداء ، وقليل من ذلك يقوله  عمر  أو غيره ، فيقره  أبو بكر الصديق   . 
وهذا مما يدل على أن  الصديق  ورعيته أفضل من  عمر  ورعيته ،  وعثمان  ورعيته ،  وعلي  ورعيته ، فإن  أبا بكر  ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -   . 
ثم الأقوال التي خولف فيها  الصديق  بعد موته ، قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته . وطرد ذلك الجد والإخوة ، فإن قول الصديق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنه يسقط الإخوة ، وهو قول طوائف [20]  . من العلماء ، وهو مذهب  أبي حنيفة  ، وطائفة من أصحاب  الشافعي  ،  وأحمد  ، كأبي العباس بن سريج  من الشافعية ، وأبي حفص البرمكي  من الحنابلة ، ويذكر ذلك رواية عن  أحمد   . 
والذين قالوا : بتوريث الإخوة مع الجد  ،  كعلي  وزيد   وابن مسعود  ، اختلفوا [21]  . اختلافا معروفا ، وكل منهم قال قولا خالفه فيه الآخر ، وانفرد بقوله عن سائر الصحابة . وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع  [ ص: 500 ] في مصنف مفرد ، وبينا أن قول  الصديق  وجمهور الصحابة هو الصواب ، وهو القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة ، [ ليس هذا موضع بسطها ] [22]  . . 
وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق  الأمة - رضي الله عنه - من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع  ، وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة  لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح ، دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث ; فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلافة  أبي بكر  ، دون القول المخالف لذلك . 
ومما يدل على كمال حال  الصديق  ، وأنه أفضل من كل من ولي الأمة ، بل وممن ولي غيرها من الأمم بعد الأنبياء ، أنه من المعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأولين والآخرين ، وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين . 
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء ويكثرون " قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : " فوا [23] بيعة الأول فالأول  " [24]  . 
ومن المعلوم أنه [25]  . من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن  [ ص: 501 ] سياسة الأول ، ظهر ذلك [26]  . النقص ظهورا بينا ، وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك ، أو قاض بعد قاض ، أو شيخ بعد شيخ ، أو غير ذلك ; فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه ، وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ، ثم  الصديق  تولى بعد أكمل الخلق سياسة ، فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه ، بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان [ عليه ] [27] ، وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ، ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب  ، وعلم الأمة ما خفي عليهم ، وقواهم لما ضعفوا ، وشجعهم لما جبنوا ، وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم ، فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم ، وقدرتهم ودينهم ، وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها ، وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					