الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ( فصل ) [1]

                  قال الرافضي [2] : " وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة ، فلم [3] يعرف حكم الكلالة ، وقال : أقول فيها برأيي ، فإن يك [4] صوابا فمن الله ، وإن يك [5] خطأ فمني ومن الشيطان ، وقضى في الجد بسبعين قضية ، وهو يدل على قصوره في العلم " .

                  والجواب : أن هذا من أعظم البهتان . كيف [6] يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ، ولم يكن بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من يقضي ويفتي إلا هو ؟ ! ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر مشاورة لأحد من أصحابه [7] منه له ولعمر ، ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منه ثم عمر .

                  [ ص: 497 ] وقد ذكر غير واحد ، مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره ، إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة . وهذا بين ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم ، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة ، كما بين لهم موت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتثبيتهم على الإيمان ، وقراءته عليهم الآية [8] ، ثم بين لهم موضع دفنه ، وبين لهم قتال مانعي الزكاة [ لما استراب فيه عمر ] [9] ، وبين لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة ، لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش .

                  وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على أول حجة حجت من مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلم المناسك أدق ما [10] في العبادات ، ولولا سعة علمه بها لم يستعمله ، وكذلك الصلاة استخلفه فيها ، ولولا علمه بها لم يستخلفه ، ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة .

                  وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذه أنس من أبي بكر . وهو أصح ما روي فيها ، وعليه اعتمد الفقهاء .

                  وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسألة من الشريعة غلط فيها ، وقد عرف لغيره مسائل كثيرة ، كما بسط في موضعه .

                  وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل : مثل الجد والإخوة ، ومثل [ ص: 498 ] العمرتين ، ومثل العول [11] ، وغير ذلك من مسائل ( * الفرائض وتنازعوا في مسألة [12] . الحرام ، والطلاق الثلاث بكلمة ، والخلية [13] . ، والبرية [14] ، والبتة [15] ، وغير ذلك من مسائل الطلاق .

                  وكذلك تنازعوا في مسائل * ) [16] . صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم . وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض : كل منهم يقر صاحبه على اجتهاده ، كتنازع [17] . الفقهاء أهل العلم والدين .

                  وأما في خلافة عثمان فقوي النزاع في بعض الأمور ، حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض ، ولكن لم يقاتل بعضهم بعضا باليد [18] . ولا بسيف ولا غيره .

                  وأما في خلافة علي فتغلظ النزاع ، حتى تقاتلوا بالسيوف .

                  [ ص: 499 ] وأما في خلافة أبي بكر فلم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين ; وذلك لكمال علم الصديق ، وعدله ، ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع ، فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها [19] . النزاع ، وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصديق ابتداء ، وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره ، فيقره أبو بكر الصديق .

                  وهذا مما يدل على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته ، وعثمان ورعيته ، وعلي ورعيته ، فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                  ثم الأقوال التي خولف فيها الصديق بعد موته ، قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته . وطرد ذلك الجد والإخوة ، فإن قول الصديق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنه يسقط الإخوة ، وهو قول طوائف [20] . من العلماء ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وطائفة من أصحاب الشافعي ، وأحمد ، كأبي العباس بن سريج من الشافعية ، وأبي حفص البرمكي من الحنابلة ، ويذكر ذلك رواية عن أحمد .

                  والذين قالوا : بتوريث الإخوة مع الجد ، كعلي وزيد وابن مسعود ، اختلفوا [21] . اختلافا معروفا ، وكل منهم قال قولا خالفه فيه الآخر ، وانفرد بقوله عن سائر الصحابة . وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع [ ص: 500 ] في مصنف مفرد ، وبينا أن قول الصديق وجمهور الصحابة هو الصواب ، وهو القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة ، [ ليس هذا موضع بسطها ] [22] . .

                  وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق الأمة - رضي الله عنه - من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع ، وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح ، دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث ; فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلافة أبي بكر ، دون القول المخالف لذلك .

                  ومما يدل على كمال حال الصديق ، وأنه أفضل من كل من ولي الأمة ، بل وممن ولي غيرها من الأمم بعد الأنبياء ، أنه من المعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأولين والآخرين ، وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين .

                  وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء ويكثرون " قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : " فوا [23] بيعة الأول فالأول " [24] .

                  ومن المعلوم أنه [25] . من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن [ ص: 501 ] سياسة الأول ، ظهر ذلك [26] . النقص ظهورا بينا ، وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك ، أو قاض بعد قاض ، أو شيخ بعد شيخ ، أو غير ذلك ; فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه ، وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ، ثم الصديق تولى بعد أكمل الخلق سياسة ، فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه ، بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان [ عليه ] [27] ، وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ، ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب ، وعلم الأمة ما خفي عليهم ، وقواهم لما ضعفوا ، وشجعهم لما جبنوا ، وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم ، فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم ، وقدرتهم ودينهم ، وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها ، وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية